الجادّة: طريقٌ في اتجاهين

“قتل الروح” لجمال مير صادقي

للمشاركة:

ارتبط اسم الأديب الإيراني المعاصر جمال مير صادقي(1933 م) بدراساته النقدية ومؤلفاته البحثية العديدة، التي ارتكز معظمها على الأدب القصصي المعاصر، فكان بلا شك من أبرز روّاد البحث في القصة القصيرة في إيران.

قارن القصة القصيرة بمثيلاتها في الغرب، وأعاد دارستها بين أسس الحكاية القديمة في الشرق، وبين النظريات الأدبية الحديثة في القرن العشرين، فخرج بكتب موسّعة حول طروحات القصة وعناصرها وتقنياتها الفنية، ولاغنى لأي باحث في القصة القصيرة الإيرانية عن الاطلاع على مؤلفاته. لم يقف مير صادقي فقط موقف المشاهد الباحث المنتقد، بل خاض بدوره معركة الكتابة، فأبدع في أماكن وأخفق في أخرى، وتعرّض لانتقادات لاذعة في بداياته من بعض روّاد القصة القصيرة، كجلال آل أحمد وابراهيم كلستان.

وعلى الرغم من إنتاجه الأدبي الضخم، إلا أنه بقي بعيدًا عما يجري في الوسط الأدبي، مقلٌّ بالكلام، لا يكترث لما يحدث، فيمضي إلى الأمام كاتباً وناقداً ومقدّماً للأجيال الجديدة وأبناء جيله تجربته في الكتابة، متمنياً أن يحفظ اللاحقون ما حققه السابقون.

يقول مير صادقي إنه لا زال متمسّكاً بخطه الفكري الواضح، الباحث عن السعادة والطمأنينة، ويعتقد أنه سيجيب على أسئلة مارسيل بروست المشهورة كما أجاب عنها في أول مرة منذ 40 سنة، حيث نشرها في جريدة “أبيض وأسود”. فثوابته لا زالت كما هي. هو يرى أنّ السعادة تكمن في عدم الحاجة، والطمأنينة هي ما يضمن لكل إنسان إبداعه واستمراره.

خلُص مير صادقي منذ بداياته البحثية إلى أن القصة القصيرة في إيران هي الأساس الأقوى للأدب القصصي المعاصر وليست الرواية، فمعظم الأدباء الإيرانيون أبدعوا في القصة القصيرة ولم ينجح سوى قلة قليلة منهم في الرواية، ويعود ذلك برأيه لأسباب ثقافية واجتماعية تتعلق بطبيعة الموروث الأدبي الذي يميل إلى الانتاج المختصر المكثف.

كرّس مير صادقي حياته للأدب القصصي، فترك خمسة مؤلفات روائية وتسع مجموعات قصصية وخمسة كتب بحثية تعتبر من أهم الدراسات الأدبية المعاصرة، بالإضافة إلى معجم للاصطلاحات الأدبية، تمت ترجمته للعديد من القصص العالمية إلى اللغة الفارسية.

في عام 1988 نشر مير صادقي مجموعة قصصية تحت اسم “البعوض”، عرّج فيها على حالات إنسانية مختلفة، نقدم اليوم واحدة منها بعنوان “قتل الروح” التي تصور الصراع الذي تعيشه الشخصية الازدواجية، فتكشف جانباً من الانكسار الروحي تحت وطأة الظروف والقهر وما يتبعه من إحساس بالذنب.

بطل قصة “قتل الروح” هو السيد “ثبوتي”، الذي يرمز اسمه للثبات والأزلية التي ترافق الطبيعة الإنسانية وحقيقتها التي لا يمكن للإنسان انتزاعها من روحه أبداً.

يعيش السيد “ثبوتي” صراعاً وتأنيب ضمير ينبع من التزامه الاجتماعي، فيرغب بأن يصارع ليحقق تغييرًا ما لمجتمعه، لكنّ هذه الرغبة ليست بالأمر السهل.

نقدم لكم ترجمة قصة “قتل الروح” للأديب جمال مير صادقي:

بحماس كبير يروي السيد ثبوتي لزوجته ما حدث معه في المكتبة. لقد التقى برجل غريب: “… عندها ذهبنا معاً وجلسنا في مكان لنحتسي الشاي لنكمل حديثنا. ما أروعه من رجل مفكر وناضج. كان يقول كلاماًمميزا لا يصدر عن أي شخص. ربما أنتِ أيضاً تفكرين دائماً بنفس الكلام. أخبرني أنه جاء لأمر ما هنا”.

لم يقل الرجل لماذا أتى إلى هنا، لكن السيد ثبوتي يمكنه تخمين ذلك. بالطبع لقد جاء للقيام بأمر هام جداً وإلا لما حاول إخفاءه عنه. “كأنه جاء من بلد آخر، لقد كان مختلفاً، ولكنه يتحدث مثلي بطلاقة، ويستخدم اصطلاحاتي نفسها، وكأنه يقول ما أقوله”!

يبدو الرجل في منتصف العمر، في نفس عمر السيد ثبوتي، لا يهتم بثيابه، يتحدث بسرعة وكأن وقته ضيّق لا يتسع لكل ما يرغب بقوله. أفكاره غير منظمة وكأنها تخرج من فمه كما تراكمت في ذهنه مباشرة مندون تنسيق وترتيب.

“كنت أفهم ما يريد قوله على الرغم من أنه يبتلع نصف الكلام، هل تصدقين! أحياناً كنت أدرك ما يريد أن يقول قبل أن ينطق”.

كان الرجل يشكو ازدحام وسائل النقل والأجواء الخانقة في كل مكان، ويقول: “كيف يمكنكم العيش هنا؟ هذا الجو ملوث جداً ويلوّث روح الانسان، لو كنت مكانكم لما جلست صامتاً”.

لا يعرف السيد ثبوتي من أيّ بلد جاء هذا الرجل، ولا يرى ضرورة لأن يتدخل ويسأله. ربما لا يرغب الرجل بأن يقول شيئاً أو أن يكشف عن سره. لم يحن الوقت بعد لتبادل الثقة، مع أن الرجل كان يتحدث بجرأةوشجاعة كبيرة، وربما لو سأله السيد ثبوتي لأجابه، لكنه لم يرغب بأن يقطع حديثه بسؤال فضولي، لقد كان مندمجاً في حديثه الذي يذكرهُ بنفسه، أو لنقل يذكره بنفسه التي نسيها منذ مدة.

كلمات الرجل الجذابة كانت تحفر مكانها في قلبه وتثير شهيته للسمع أكثر، مع أن السيد ثبوتي كان يعلم كل ما يقوله الرجل مسبقاً، لكنّ قول ما يعرف ليس بالأمر السهل، بل يحتاج إلى شهامة كبيرة، يقر السيد ثبوتي: “تقول ما لا أجرأ أنا على قوله”.

يبتسم الرجل ويقول: “إذا كنت تؤمن بذلك فستتجرأ وتقوله بالطبع”.

عند نهاية اللقاء، يتمنى السيد ثبوتي تكراره لاحقاً، فلا زال الشوق يعتمره لسماع المزيد. يعطيه الرجل عنوانه في الفندق ويكتب السيد ثبوتي رقم هاتفه للرجل الغريب على ورقة.

يقول السيد ثبوتي لزوجته: “لا تعتقدي أنه قال ما هو جديد بالنسبة لي، لا أبداً، القصة أنني كنت مذهولًا بما حدث، فقد كان يقول بالضبط ما كنت أفكر به، لو كنت أؤمن بالقرين لقلت إنه قريني، لم يأبه لشيء، كان يقول كل ما يخطر في ذهنه من دون أي تردد، وكأنه غير مبالٍ بأن يسمع أحد حديثه فيتسبب له بمشكلة. للحظات كان يعتريني الخوف فأنظر حولي كي أرى ما إذا كان هناك أحد يصغي لنا أم لا، نطقنا سويًا بجملة وضحكنا لا إرادياً، لقد أعجبني جداً”.

تقول زوجته: “هيا اذهب وأكمل عملك، يكفيك مبالغة”.

بعد أسبوع، وفي اليوم نفسه الذي التقى فيه السيد ثبوتي الرجل الغريب، رنّ هاتف المنزل. بصوته المألوف دعا الرجل الغريب السيد ثبوتي لزيارته في الفندق غداً عند الظهيرة لتناول الغداء.

قال السيد ثبوتي لزوجته بحماس: “قال لي تعال أريد أن أرتب لك أمرك، وكأنه يعرف أنني مثل فأر أعمى أختبئ في وكري ولا أفعل أي شيء، وكأنه يعرف أنني عالة ضعيفة متراخية دون فائدة”.

ارتفع صوت زوجته: “ماذا تقول؟ ماذا تقصد بفأر أعمى؟ لماذا ترى نفسك عالة؟ ماذا يمكنك أن تفعل مثلاً”؟

سرح السيد ثبوتي في فكره بعيداً ثم قال: “في الحقيقة لا أعلم، لكن يبدو أن عليّ القيام بأمر ما، يبدو أن هناك ما يمكن القيام به، لم أفعل حتى الآن أي شيء ولذا أشعر بتأنيب الضمير”.

ظهر اليوم التالي كانت الثلوج تملأ الشوارع، كأنّ الرجل يستعد للذهاب إلى الفندق، وكأن موظف الفندق قد اشتبه عليه الأمر فظن أن السيد ثبوتي أحد النزلاء، انحنى له وهو يحرك كفَّيْ يديه معاً من شدة البرد وقال: “ما هذه الثلوج يا سيدي، يا له من ثلج”.

أعطى موظف الفندق السيد ثبوتي مفتاح الغرفة، فاعتقد الأخير أن الرجل قد ذهب من الفندق لدقائق وسيعود، وأوصى الموظف أن يعطيه مفتاح الغرفة لكي ينتظره.

يأخذ ثبوتي المفتاح ويصعد السلالم ويمضي في الممر المظلم نحو الغرفة. الستائر مسدلة والأجواء خانقة تضغط على صدره.

يضيء السيد ثبوتي نور الغرفة، يرى الرجل الغريب مستلقياً على السرير، يناديه لكنه لا يجيب، يمضي نحوه فيراه مطعوناً بسكين وسط صدره والدماء تسيل من فمه. لقد مات الرجل، عيونه متصلبة تنظر إليهوكأنها تلومه.

يطفئ السيد ثبوتي نور الغرفة ويخرج بعد أن يغلق الباب، لا أحد في الممرات، كل الغرف مغلقة، لا صوت يُسمع في الجوار، يهبط السلالم لا يرى موظف الفندق خلف طاولة الاستقبال، يعلّق المفتاح في المسمار أعلى الطاولة ويمضي مسرعاً تحت الثلج نحو منزله، يقص لزوجته ما حدث بالتفصيل، تلومه المرأة لأنه لم يخبر الفندق بما حدث.

“إذا ألقوا القبض عليك الآن بتهمة القتل، كيف ستدافع عن نفسك؟ لديهم رقم هاتفك؟ وموظف الاستقبال رآك ويعرفك لماذا هربت”؟

لم يعد الوقت مناسباً ليعود مرة ثانية للفندق. يستلقي السيد ثبوتي على السرير، ترتفع حرارته قليلاً، يبدأ بالهذيان ويرى كوابيس مزعجة، يستيقظ غارقاً في عرقه ويصرخ: “أحمق، نذل، مجرم، فلتمت. فلتمت.فلتمت”.

يصاب السيد ثبوتي بالتوتر والقلق، يفقد هدوءه، وتضطرب حياته. لم يعد يخرج من منزله كثيراً، ولا يرغب برؤية أيّ أحد. يشعر دائماً بالاضطراب والخوف. في كل مرة يقرع فيها جرس المنزل يُخيّل له أنهم جاؤوا للقبض عليه، يرتعب لرنين الهاتف.

تمضي الأيام من دون أن يحدث أي شيء غريب، لا أحد يبحث عنه. زوجته بدأت تشك بذهابه ذلك اليوم إلى الفندق، وإن كان هناك رجل غريب بالفعل. فزوجها لا زال مضطرباً غير مستقر لا يمكنه حتى أن يتذكرعنوان الفندق.

الكوابيس لازالت تلاحقه، فيستيقظ خائفاً كل ليلة. لا يمكن له أن ينسى قتل ذلك الرجل، من المؤكد أنهم سيبحثون عنه يوماً ما ويلقون القبض عليه بجريمة قتل الروح.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: