الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة17 مايو 2019 15:20
للمشاركة:

الصراع الأميركي – الإيراني .. البحر شاهد ملك

جاده إيران- رأفت حرب

لطالما تجلّى الصراع بين واشنطن وطهران في منطقة حيوية جداً من منطقة الشرق الأوسط، إنها المياه الخليجية التي تفصل إيران عن عدد من الدول العربية. هناك تدور المواجهات على مختلف المستويات، بعضها ينتهي بالتهديد والتحذير والاستفزاز، وبعضها لم ينتهِ إلا بالكثير من الحديد والنار. هناك مضيق هرمز وبواخر النفط، هناك البوارج الأميركية والقواعد العسكرية ودوريات لا تنتهي، وهناك العيون الإيرانية ترصد البشر والمياه والهواء. ماذا شهد هذا البحر حتى الآن؟

مناوشات السيادة وسيف العقوبات

حساسة هي نظرة الإيرانيين لسيادتهم على مياههم الإقليمية. مع إيديولوجية وخيارات سياسية مختلفة عن الجيران العرب، تتحيّن طهران الفرصة لتظهر من خلال بحريّتها أنها لا تسكت لواشنطن على أي تعدّ أو نوايا عدوانية، وأنها غير مستعدّة لتعاظم أية هيمنة أميركية في بحر الخليج على حسابها.
مظاهر القوة على سطح تلك المياه لا تكاد تنتهي. مناورات ومناوشات. تهديدات وتصريحات نارية. ما يمرّ عبر مضيق هرمز من كميات من النفط يجعل إقفال هذا المضيق بالألغام (وهو ما حاولت تحقيقه إيران فعلاً خلال الحرب الإيرانية – العراقية) سلاحاً قوياً بيد الجمهورية الإسلامية، ومكاناً مناسباً لأية إدارة أميركية تريد تحجيم نفوذ إيران ودورها في المنطقة، كما أن هذه الساحة التي تفوح فيها رائحة مصادر الطاقة، لا تبدو استراتيجياً ساحة قابلة للمساومة بالنسبة للأميركيين الذين ينظرون إلى هكذا أماكن حيوية كمراكز يجب أن تكون خاضعة لسيطرتهم بشكل أو بآخر.
لا تُعدُّ ولا تُحصى المناورات والأحداث التي كادت أن تؤدي إلى توترات كبيرة بين الطرفين في السنوات السابقة. ربما ذكر بعضها يكفي لإيضاح المشهد.
في 21 شباط/ فبراير الماضي، أعلنت القوة البحرية الإيرانية بدء مناورات “الولاية 97” البحرية الكبرى والتي جرت على أربعة مراحل، على مساحة تبلغ مليوني كيلومتر مربّع من مضيق هرمز إلى مدار 10 درجات من المحيط الهندي، تم خلالها ولأوّل مرة إطلاق صواريخ من الغوّاصات الإيرانية.
لا ينفصل هذا المشهد الذي يعني مضيق هرمز بالذات عن العقوبات الاقتصادية الأميركية المتصاعدة على إيران، حيث تعلن رموز الإدارة الأميركية الحالية نيّتها تحقيق هدف أساسي هو خفض صادرات إيران النفطية إلى صفر، في حين لا يتردّد الإيرانيون، على لسان رئيسهم حسن روحاني، بالحديث عن نيّتهم إقفال المضيق الحيوي إذا توقف تصدير النفط الإيراني، وهو الذي قال في كانون الثاني/ يناير الماضي: “إذا قررت الولايات المتحدة يوماً إيقاف صادرات إيران من النفط، فلن يصدر نفط عبر الخليج”.
في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ومع حصول توترات بين الطرفين في مياه الخليج، خاصة بعدما قام زورقان هجوميان سريعان إيرانيان بالاقتراب من حاملة الطائرات الأميركية “أسيكس” بالترافق مع زيارة قام بها للمنطقة قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط جوزيف فوتيل، حذرت صحيفة “الواشنطن بوست” الأميركية من إمكانية تجدد التوتر بين الطرفين.
علّقت الصحيفة على هذا الحادث بالقول إنه يوضح دقة المسار الذي يجب على الجيش الأميركي اجتيازه مع تصعيد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للضغط على طهران والاستعداد لإعادة فرض عقوبات جديدة عليها.
وأضافت الصحيفة نقلاً عن مسؤولين في البحرية الأميركية إن السفن الإيرانية تُجري بانتظام مناورات مماثلة حول حاملة الطائرات الأميركية، وغالباً ما يحصل ذلك مرات عدة في الأسبوع الواحد.
أما في أيلول/ سبتمبر 2018، فقد قامت قوات بحرية أميركية – بريطانية بمناورات قيل إنها تهدف لحماية مياه الخليج من نشاطات معادية، تحديداً من خطر الأغام البحرية، غالباً قُصد فيها جماعة أنصار الله في اليمن وإيران، وذلك في ظل المعارك التي كانت تدور في المحافظات اليمنية والاتهامات التي كانت تُساق لإيران بدعم حلفائها هناك.
في آذار/ مارس عام 2017، أجرت القوات البحرية والجوية الأميركية مناورات لتدريب جنودها على مواجهة الزوارق الحربية الإيرانية التي تهدد سلامة الملاحة وتواجد القوات الدولية في مياه الخليج وبحر عمان، بحسب تعبير الأميركيين.
المناورات سُمِّيَت بـ “هجوم المطرقة” وقد جرت في سواحل فلوريدا، وفي هذا الشأن صرّح عقيد في الجيش الأميركي قائلاً إن هذه المناورات كانت شبيهة لما حدث من احتكاكات مع الحرس الثوري الإيراني في وقت السابق.
أما عن هذه الاحتكاكات، فلعلّ أبرز ما جرى في هذا الإطار هو التالي:
في كانون الثاني/ يناير 2016، احتجزت القوة البحرية للحرس الثوري الإيراني جنوداً أميركيين قالت إنهم دخلوا إلى المياه الإقليمية الإيرانية.
نشر الحرس صور هؤلاء الجنود وهم يضعون أيديهم على رأسهم بعدما تمّت محاصرة زورقين كانوا يبحرون على متنهما. بعد الإفراج عن الجنود، أعلن الحرس الثوري أن الأميركيين سيعودون إلى ديارهم بعدما قدّموا اعتذارهم عن “الدخول غير القانوني” للمياه الإقليمية وتعهّدهم بعدم تكرار ذلك.
أما نشر الصور بهذا الشكل، فكان من الواضح أن القصد من ورائه إعلامي ونفسي، هو أنّ إيران قادرة على إذلال الولايات المتحدة في مياه الخليج.
عندما تحذّر صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، منذ أشهر، من عودة “حالة العداء” في مياه الخليج بين البحريّتين الأميركية والإيرانية، فإنها بلا شك لا تبني تحذيرها على معطياتٍ آنيّةٍ فقط، بل، وهو الأكثر أهميّة، فإنّ تاريخًا من الصدام المائيّ المباشر بين واشنطن وطهران تحضر بين سطور تحذير الصحيفة.

إنها الحرب العراقيّة – الإيرانيّة التي قلبت مياه الخليج ناراً، حيث باتت شبكات الألغام البحرية كثيفة كمجوعات السمك. حينذاك، اندفع الحرس الثوري بكلّ قدرته لإغلاق مضيق هرمز، وضرب تجارة النفط العربيّة. في المقابل استُقدمت البوارج الأميركية وكاسحات الألغام لتوفير ما أمكن من الأمان للحركة التجاريّة.

لم يتأخّر الدور العربي في دعم العراق بقيادة صدام حسين في حربه على إيران. هناك قول معروف لرئيس الاستخبارات السعودي الأسبق الأمير بندر بن سلطان، يشير فيه إلى أنّ الدول الخليجية العربية قدّمت للعراقيين 200 مليار دولار من أجل مساعدتهم في كسب الحرب، والقضاء على النظام الإيرانيّ بقيادة الإمام الخميني آنذاك، وأنّ هذه الدول كانت ستقدّم المزيد من دون تردّد، لو كان باستطاعتها ذلك.

محاولات إيران تصدير نفطها للخارج كانت تتلقى ضربات قاسية من سلاح الجو العراقي أيضاً، وقد صدرت كتب عديدة تحكي قصص التعاون بين العرب والعراق من جهة، والولايات المتحدة والعراق من جهة أخرى، لمحاصرة إيران من الجهات كافة، ودعم المجهود الحربي العراقي حتى الإطاحة بالحكّام في إيران.

رغم ذلك، لم يكن الإيرانيون يرغبون بإشعال مياه الخليج، ذلك أنها تسمح لهم بتصدير النفط، في حين أنّ العراق كان يصدر معظم نفطه عبر أنابيب من خلال تركيا. لكنّ صدام حسين بادر إلى قصف السفن الإيرانيّة بدءاً من شباط/ فبراير 1984، فأغرق أو ألحق ضرراً كبيراً بـ16 سفينة، وقد لحق الضرر سفنًا صديقة للعراق، عندما ضرب صاروخ إكزوسيت عراقي ناقلة تعود ملكيّتها للسعودية كانت تشحن 340 ألف طن من النفط الخام الإيرانيّ متجهة إلى فرنسا!

عندها اتخذ الإيرانيون قرارهم: إقفال مضيق هرمز بكلّ الوسائل العسكريّة المتاحة! أوّلاً، لأنهم يُمنعون من استخدامه من أجل تصدير نفطهم، وثانياً، لأنّ الدعم الهائل الذي كانيتلقاه صدام حسين مردّه أموال النفط عند العرب. هكذا، بدأت المواجهات بين البحرية الأميركية والحرس الثوري الإيراني في بحر الخليج.

ضرب ناقلات النفط العربية

تدرّج استهداف إيران لناقلات النفط العربية شيئاً فشيئاً، حتى غطّى جميع الدول التي تمرّ تجارتها في المدى الذي تطاله يدها. يذكر ديفيد كريست، ضابط سابق في قوات المشاة البحرية الأميركية، في كتابه “حرب الشفق” كيف بدأ هذا التصعيد يتدحرج.

صباح يوم الأحد 13 أيار/ مايو 1984، كانت ناقلة النفط الكويتية “أم قصبة” تتجه جنوباً خارج مياه الخليج، حاملة شحنة نفط محرّر إلى المملكة المتحدة.

نقلت طائرة استطلاع إيرانيّة موقع الناقلة إلى قاعدة جويّة قرب مدينة بوشهر ( كان لميناء بوشهر دور هام في تلك الأحداث). بعد نحو ساعة حلّقت طائرة إيرانية من طراز F-4Eمموّهة بتدرّجات اللون البنّي الصحراوي الفاتح والداكن، مسحت جميع أنحاء الخليج خلال أقلّ من 15 دقيقة. ظهر ضابط حرب إلكترونية إيرانيّ على شاشة فيديو صغيرة، ركّز العدسة مباشرة على ناقلة النفط التي تبلغ سعتها 80 ألف طن، ثم أطلق عليها صاروخين من طراز “مافريك” صغيرين، وهو نوع يُستخدم عادة لتدمير دبابات، وليس ناقلات نفط عملاقة.

أصاب الصاروخان ناقلة النفط مباشرة في وسطها، فاشتعل حريق صغير أطفأه طاقم السفينة. في اليوم التالي، أطلقت طائرة إيرانية صاروخاً ألحق هذه المرة أضراراً حقيقية بناقلة نفط كويتية أخرى اسمها “بهرا”، حيث أحدث فجوة عمقها خمسة أمتار في جانب السفينة.

بعد يومين من استهداف الناقلات الكويتية، جاء دور السعودية، فضربت صواريخ إيرانية ناقلة النفط السعودية “ينبوع برايدا” عندما كانت راسية في مرفق لتحميل النفط من ميناء رأس التنورة، وهو ميناء حيوي يقع في الجهة الشمالية الشرقية لمدينة القطيف، ويُعتبر أكبر ميناء لشحن النفط في العالم، حيث تنطلق منه أكثر من 90% من الصادرات السعودية.

في روايتها للحادثة، نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركيّة في عددها الصادر بتاريخ 17 أيار/ مايو 1984 عن مصادرها، أنّ القبطان تحدّث عن إصابة الصاروخ السطح الأمامي للسفينة، مما أحدث ثقباً وأبقى النيران مشتعلة لأربع ساعات، لافتاً إلى “ينبوع برايدا” كانت تحمل 100 ألف طن من الخام الكويتي و110 آلاف طن من النفط السعودي، فيما لم تبلغ مصادر الصحيفة عن وقوع إصابات.

في الأشهر السبعة التالية، ضربت إيران 15 سفينة عربيّة إضافية. الضربات الإيرانية هذه سرعان ما دفعت إلى اجتماعات بين المعنيين لإيجاد حلّ، وكانّ أهم أوجه هذا الحل استدعاء بحريّة الدول الغربية الكبرى، الأميركية خاصة، لحماية ناقلات النفط وتفجير الألغام التي نشرها الحرس الثوري في مياه الخليج.

في تلك الآونة، كانت العلاقات بين واشنطن وعواصم الدول العربية الخليجية، قد تلقت ضربة في الصميم إثر فضيحة إيران – كونترا، حيث باعت إدارة الرئيس رونالد ريغاند الإيرانيين أسلحة متطورة مقابل المساعدة بإطلاق سراح أسرى أميركيين في لبنان.

في تلك الظروف، برز الطلب العربي كسبيل يحقق لواشنطن أهدافاً عدة: تحسين العلاقات مع الحلفاء العرب، تقوية الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، ومواجهة إيران بشكل مباشر، وكان من الطبيعي لواشنطن أن تستجيب.
مع ازدياد التصعيد على سطح مياه الخليج، كما ذكرنا في الجزء السابق، بات لا مفرّ بالنسبة لدول الخليج من التعاون الأميركي لحماية ناقلات النفط، مع كل ما قد يستتبع ذلك من تدهور يؤدي إلى مواجهة عسكرية أميركية – إيرانية،يمكن أن تتوسع إلى المجال البري.
في 21 أيار/ مايو 1984، طلبت الدول المتضرّرة من الاستهداف الإيراني لسفنها اجتماعاً لمجلس الأمن الدولي، للتباحث في مسألة الهجمات الإيرانية الأخيرة، وقضية حرية الملاحة في المنطقة.
في 1 حزيران/ يونيو 1984، أصدرت الأمم المتحدة القرار رقم 552، حيث دعت فيه كل الدول إلى احترام حق حرية الملاحة البحرية، كما حذرت طهران من متابعة سلوكها، وأكّدت أنها ستلجأ إلى “اتخاذ تدابير فعّالة” في حقّها إن لم تلتزم بالقرار، فكان من الطبيعي أن يعبّر الرد الإيراني عن السخط لتجاهل دور العراق في توسيع الحرب خارج المستوى البرّي.
إثر ذلك قامت السعودية بتحديد منطقة حظر جوي شمال الخليج، أطلقت عليها اسم “خط الفهد” نسبة لاسم الملك السعوديّ آنذاك فهد بن عبد العزيز آل سعود. غطّت هذه المنطقة مجالاً واسعاً شمل حقول النفط السعودية البعيدة عن الشاطئ، مع تحذير سعودي للإيرانيين باستخدام القوة في حال عبرت أيّ طائرة إيرانية هذا الخط لمهاجمة سفن شحن، وبالطبع كان سلاح الجو الأميركي من وراء الكواليس الحجر الأساس للرد السعودي.
راقبت طائرات أواكس أميركية الصنع الأجواء على نحو مستمر، انطلاقاً من قاعدة الظهران، في حين كانت ناقلات نفط أميركية تزوّد طائرات سعودية مقاتلة من طراز F-15 بالوقود جوّاً، لتتمكّن من حراسة منطقة الحظر.
في 5 حزيران/ يونيو كشفت طائرة أواكس أميركية طائرتين إيرانيتين من طراز F-4 عندما كانتا تعبران خط الفهد وتتجهان نحو طائرتين مقاتلتين سعوديّتين، كان في إحداهما مدرّب طيران أميركي يجلس في المقعد الخلفي. تجاهل الإيرانيون تحذيرين بالتراجع، وبدلاً من أن يتراجعوا، اتصلوا لا سلكياً بقاعدتهم للحصول على التعليمات. بتشجيع من المدرّب الأميركي، وجّه الطيّاران السعوديان اللذان كانا لا يزالان يخضعان للتدريب، كلّ منهما صاروخاً حرارياً فأصاب أحدهما الهدف، فأحرق طائرة إيرانيّة بشكل كامل وأسقط طياريها في البحر.
الفور نحو 60 طائرة مقاتلة من الجانبين. بدا الأمر وكأنّ معركة جوية كبرى على وشك أن تبدأ فوق الخليج، لكنّ إيران تراجعت أوّلاً ولم تحصل المواجهة.
أغضب ذلك وزير الدفاع السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز، الذي خشي أن تتضاعف الهجمات على ناقلات النفط السعودية، لكنّ الأمر فُهم بشكل مختلف في إيران، أي ضرورة تجنّب خط الفهد.
أما في واشنطن، فقد سعّر الاشتباك بين السعوديين والإيرانيين من الخلافات السياسية. اعتقد كل من مستشار الأمن القومي روبرت ماكفرلين ووزير الخارجية جورج شولتز أنّ طهران سوف تستخدم ما حصل كذريعة لتوسيع عملياتها في زعزعة استقرار دول الخليج العربية، وأنها ستسعى للقيام بهجوم سريع ضد الجيش الأميركي في المنطقة، خاصة بعد الهجوم الذي استهدف جنود البحرية الأميركية في بيروت، وكانت إيران متهمة بتحريك منفذي هذا الهجوم.
كان الخوف حاضراً عند شولتز من أن يتم استهداف سفينة حربية أميركية تبحر في الخليج من خلال طائرة انتحارية مثلاً، خاصة بسبب امتناع الإدارة الأميركية باتخاذ قرار بالرد على هجوم بيروت، فدعا إلى “معاقبة الإرهاب”، في حين ذهب ماكفرلين بعيداً في التشجيع على النظر في توجيه ضربة وقائية ضد إيران.
أما وزير الدفاع كاسبر واينبرغر فأبدى شكوكه في هذه الأفكار ، وقد اختلف مع مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية بحجة أن ما يطمحان إليه من شأنه أن يجرّ الولايات المتحدة إلى الحرب العراقية – الإيرانية، وأن يدفع بها إلى توسّع لا يعلم أحد أين ينتهي. وفي الاتجاه نفسه، برز فريد إيكله، الرجل الثالث في البنتاغون، محذراً من أن العمل العسكري ضد إيران لن يوقف عملياتها في المنطقة ولن يحقق أكثر بكثير مما يمكن للعراق أن يحققه من دون تدخل أميركي، حيث كان يتخوّف حينها من أن التورّط في ما يجري ضد إيران قد يفتح المجال للاتحاد السوفياتي لإثبات وجوده بشكل أقوى في المنطقة.
لعلّ البعض في واشنطن لم يكن راغباً تماماً بمواجهة مع إيران نظراً لانعكاساتها على المنطقة والعالم، لكنّ الانخراط الأميركي بدأ، وكأنه لا مفرّ منه عندما قرر العرب أنهم بحاجة لتعاون أميركيّ أكبر، وأنّهم، إن لم يحصلوا عليه، فلا سبيل أمامهم سوى التوجه إلى الطرف الآخر في الحرب الباردة، الاتحاد السوفياتي، وهو بالطبع ما لم يكن الأميركيون ليتحمّلوه في منطقة هي من أكثر المناطق أهميّةً ضمن منظومة مصالحهم الحيويّة.
كما ذكرنا في الأعلى، فإن الإيرانيين والأميركيين حاولوا تجنّب المواجهة المباشرة في بحر الخليج، لكنّ الحرب العراقية – الإيرانية بقيت تتدحرج، وها هي الدول العربية تريد من يحمي ناقلات نفطها، فيما إيران مجبرة على استهداف هذه الناقلات، نظراً للدعم العربي الهائل الذي تلقاه صدام حسين.
وافق الأميركيون في نهاية المطاف على تقديم الحماية لحلفائهم العرب في مياه الخليج، حتى لا يضطرّ الأخيرون إلى الهرولة نحو السوفيات، لكنّ أمراً ما، كان لا بدّ من أن يحصل في ظل تلك الأجواء المتوترة، ليمهّد الطريق أمام المواجهة المباشرة.

سفينة الشحن President Taylor

عند الساعة ١١ من صباح 12 كانون الثاني/ يناير 1986، كانت سفينة الشحن الأميركية “President Taylor”، البالغ طولها 600 قدم، تبحر على بعد 24 ميلاً قبالة سواحل الإمارات العربية المتحدة، حاملة شحنة صغيرة من القطن، متوجّهة إلى ميناء الفجيرة ، حيث ستحمل شحنة مواد غذائية، قبل التوجه إلى الهند.
اقترب منها قارب إيراني صغير، ثم طلب منها عبر اللا – سلكي أن تتوقف. حاول قائد السفينة روبرت رايمان المراوغة، وردّ قائلاً “نحن نبحر في المياه الدولية. لا يحق لكم إيقافنا”. عندها وجه القارب الإيراني سلاحه باتجاه السفينة، وأصرّ الإيرانيون على أن توقف السفينة محرّكاتها، فلم يكن لدى رايمان سوى الانصياع.
صعد سريعاً ٧ إيرانيين بينهم ضابطان على متن سفينة “الرئيس تايلور”، وسيطروا على جهاز الاستقبال المثبت في السفينة، وعلى 43 من أفراط طاقمها. طلبوا من القبطان رايمان إبراز بيانات السفينة، ففعل. وبعد أن فتشوا المكان ونظروا في حاويتين، أعربوا عن رضاهم وقالوا لطاقمها إنّهم أرادوا فقط التحقق من عدم وجود بضائع مهرّبة إلى العراق على متنها.
في اليوم التالي، اعترف متحدث باسم البنتاغون أنّ المشكلة تكمن في أنه يحق لإيران، بموجب القانون الدولي، تفتيش سفنٍ تشتبه بأنها تنقل عتاداً حربياً إلى العراق. إلا أنّ غضب وزير الدفاع الأميركي آنذاك كاسبر واينبرغر ومشاعره السلبية تجاه إيران، وكون ما جرى تم بعد ثلاثة أشهر فقط من اختطاف السفينة الإيطالية “أكيلي لاورو Achille Lauro” من قبل فلسطينيين، عوامل وضعت إدارة ريغان أمام لحظة حاسمة.
في 1 شباط/ فبراير، أرسلت الخارجية الأميركية رسالة تحذيرية مقتضبة إلى الحكومة الإيرانية عبر السفارة السويسرية في طهران، جاء فيها “بصرف النظر عن المسائل القانونية المعنية، إن الصعود على متن سفن ترفع علم الولايات المتحدة، وتفتشيها من قبل قوات إيرانية مسلّحة خلال فترة يسودها توتر حاد وصراع إقليمي، هو حدث يؤدي إلى مواجهة بين وحداتنا العسكرية والقوات الإيرانية، وهي مواجهة لا يرغبها كلا البلدين”. بعدها أمر واينبرغر البحرية الأميركية بمنع أي صعود على متن سفن التجارة الأميركية، كما أصبحت هذه الأخيرة تبحر بمواكبة بوارج حربية.

حرب الألغام
كل ذلك جرى بناء على خطة عنوانها “غدير”، وضعتها إيران عام 1984، بهدف محاربة الأسطول الأميركي.
في شهر أيار/ مايو، قررت إيران اختبار بعضٍ من ألغامها الجديدة في الكويت، على أمل تخويف الحاكم الكويتي لدفعه إلى التراجع عن قرار تسجيل الناقلات الكويتية لدى خفر السواحل الأميركي ورفع العلم الأميركي عليها.
غادر مركبان شراعيان كبيران ميناء بوشهر، وأنزلا 14 لغماً في خطين متوازيين على شكل شعاعين خارجين من إحدى عوامات ملاحة القناة. كانت الألغام متباعدة بعناية، إذ يبعد كل لغم عن الآخر مسافة 30 متراً.
في اليوم نفسه دخلت الناقلة السوفياتية “المارشال تشيوكوف Marshal Chuykov” من المدخل الرئيسي للمياه العميقة إلى ميناء “الأحمدي” في الكويت كي تتزوّد بشحنة من النفط الكويتي الخام. كانت على بعد ميلين شرقاً عوّامتان تراقبان مدخل القناة، فإذا بانفجار هائل يهز الناقلة فيُحدث فيها شقاً طوله ثمانية أمتار وعرضه ستة أمتار في ميمنتها، واحتاجت الأضرار إلى إصلاحات كبيرة في مرافق حوض سفن جاف في دبي. في الشهر التالي، أصابت الألغام ثلاث سفن، كلها على بعد ثلاثة أرباع الميل من المنطقة التي واجهت فيها السفينة السوفياتية مصيرها السيء. “أعتقد أن لدينا وضعاً خطيراً هنا”، هذا ما قاله حينذاك، قائد القيادة المركزية الأميركية جورج كريست لرئيس هيئة الأركان المشتركة وليام كرو.

مع استمرار الحرب، برز سلاح الألغام بالنسبة للحرس الثوري الإيراني كسلاح فعال من أجل مواجهة البحرية الأميركية، ومن أجل إقفال مضيق هرمز والضغط على كل القوى التي تعمل ضد إيران.
أواخر عام 1984، شكّل قائد الحرس الثوري، محسن رضائي، مجموعة صغيرة مكوّنة من ثمانية ضباط لتطوير صناعة الألغام البحرية. درس هذا الفريق هندسة بعض ألغام كوريا الشمالية، لإنتاج نسخة إيرانية منها، في حين قدمت ليبيا نموذجاً سوفياتيا حديثاً لإجراء المقارنة بينهما.
خلال العام التالي، أجرى المهندسون 4 اختبارات في الصحراء الإيرانية، لكنّ الهندسة الرديئة أزعجت الفريق المصمّم. مع ذلك، وبحلول منتصف عام 1985، تغلّب الفريق على معظم المشاكل التي واجهته وبدأ الإنتاج. أول تصميم إيراني للألغام البحرية كان من نوع SADAF-01 وSADAF-02(M-08).
وكأنّ الأقدار شاءت أن لا مفرّ من مواجهة مباشرة فوق مياه مشتعلة في الخليج، بين الإيرانيين والأميركيين. بالرغم من تجنّب الطرفين للاحتكاك المباشر، حانت في النهاية لحظة يقف فيها الجميع أمام الحسابات الأصعب.
في تموز/ يوليو 1987، قرر قائد الحرس الثوري الإيراني محسن رضائي، من دون علم مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني، مهاجمة قافلة بحرية تضم ناقلة ترفع العلم الأميركي وترفع اسم “بريدجتون” وتتمتع بمراقبة مباشرة من قبل البحرية الأميركية.
إلا أن نية رضائي جرى نقلها للخميني الذي قام بكبح جماح القائد المتحمّس جداً وأمره أن يدير عملية زرع ألغام متفق عليها وأن يتفادى خوض معركة مباشرة مع الأميركيين.
التزم رضائي بما أُمر به. غادر الزورق جزيرة “فارسي” متوجها عشرين ميلاً غرباً إلى وصل إلى عوّامة اسمها “ميدل شولز”، بعد ذلك توجه شمالاً على طول طريق الناقلة مسافرة عشرة أميال أخرى إلى أن وصل إلى نقطة تضيق عندها حركة المرور فتلتفّ حول منطقة حظر الحرب المعلنة من قبل إيران. قامت عندها وحدة خاصة من الحرس الثوري الإيراني، بعد أسابيع من التدريب على هكذا مهمة، بزرع سلسلة من الألغام بحيث يبعد كل لغم عن الآخر مسافة خمسمئة ياردة، ثم عادت مسرعةً إلى جزيرة فارسي.
في 23 تموز/ يوليو، بعد غروب الشمس تماماً، كشفت العمليات الأميركية لاعتراض الاتصالات قاربين من قوارب الألياف الزجاجية خارج جزيرة “فارسي”. جاء أحد ضباط المخابرات، وهو هاول كونوار زيغلر، إلى حجرة قائده بيرنسن على متن سفينة “لا سال” وقام الاثنان بتقييم الملاحظات ومقارنتها لفهم حقيقة ما يجري، فالتصرفات الإيرانية وما بثته إذاعة الحرس الثوري تشير إلى أن إيران تخطط لمهاجمة القافلة بزوارق سريعة عند مرورها بجزيرة “فارسي”، ومن المفارقات أن الاستخبارات الأميركية كشفت رغبة رضائي في مهاجمة القافلة التي أحبطها الخميني، إلا أنها لم تتوقع عملية زرع الألغام التي كان الإيرانيون قد خططوا لها.
على أثر هذه التطورات، تلقت القافلة أوامر باتخاذ مسار مختلف لتجنّب القناة الرئيسية في الكويت، وأن تبطئ سرعتها كي تصل إلى جزيرة “فارسي” في الصباح التالي لأن النهار سيسمح باستهداف القوارب الصغيرة بصورة أفضل.
عند الفجر، قامت مروحية أميركية باستكشاف الطريق أمام القافلة وكان الطرّاد “يو إس إس فوكس” في الطليعة، وعندما مرّت القافلة بالجزيرة الإيرانية المهدِّدة لم يُشاهد أي قارب. استقبلت وزارة الدفاع هذا الأمر بارتياح كبير، وتم إبلاغ الوزير كاسبر واينبرغر أن أسوأ ما في الأمر قد انتهى. وتوجهت القافلة إلى الكويت، وكان من المتوقع أن يتم تسليم الناقلات للبحرية الكويتية بعد ظهر ذلك اليوم، وبدأ الفطور يُقدّم إلى طاقم السفينة المسؤول عن المراقبة في مقصورة ربان ناقلة النفط العملاقة “بريدجتون”.
فجأة، سمع قائد السفينة، النقيب سيتز، قعقعة معدنية، فقد ضربت موجة هائلة أسفل السفينة فهزّتها على امتداد طولها وكأنّ أحداً ما أمسك بحافة بساط وراح ينفضه بقوة. عندما بلغت الموجة منصة قيادة السفينة “بدا وكأنّ مطرقة وزنها 500 طن ضربت السفينة”، هذا ما يتذكره النقيب ستيز. تطايرت المأكولات في كل مكان وسارع الرجال يتشبثون بما حولهم حتى لا يقعوا أرضاً.
فتح اللغم ثغرة قطرها خمسون متراً مربعاً في جانب الناقلة العملاقة. تباطأت سرعة “بردجتون” لكنها لم تتوقف رغم الضرر الذي لحق بها، فقد كان باستطاعة قعرها الكهفي والفارغ أن يصرّف المياه التي راحت تغرق المقصورات، غير أن السفن الحربية الأميركية الأصغر منها لن تكون محظوظة إلى هذا الحد في ما لو ارتطمت بلغم كهذا، فأخذت تبحث عن ملاذ لها بسرعة خلف الناقلة الكبيرة، وسار الحرس في خط مستقيم وراء “بريدجتون” محتمين بالناقلة لتجنّب ألغام إضافية.
في ساعات الصباح الباكر انتشر خبر اللغم بسرعة في دوائر الحكومة الأميركية. يذكر أحد الشهود أن جورج كريست، الذي كان يراقب العملية من مركز قيادته في تامبا: “وثب عن كرسيّه بكل ما للكلمة من معنى” عند سماعه الأخبار. اتصل الضابط المناوب في مركز القيادة العسكرية القومية بالأدميرال كرو الذي كان نائماً في مقرّه في فورت ماير وأبلغه ما حصل.
اتصل كرو ببيرنسن وسأله: “ما الذي يحدث بحق الجحيم”؟
زوّده بيرنسن بالتفاصيل: “لقد ارتطمت بريدجتون بلغم، ولكن لم يسقط ضحايا وها هو الموكب على وشك الوصول إلى الكويت بنصف سرعته”. استدعى كرو سائقه وارتدى زيّه العسكري فوراً وتوجّه إلى وزارة الدفاع.
عند وصول القافلة بأمان إلى الكويت، جلس بيرنسن في مكتبه في المقصورة الخاصة به، ثم كتب رسالة إلى رئيسه قال فيه: “تعتبر أحداث هذا الصباح تغييراً واضحاً وخطيراً في السياسة الإيرانية حيال المصالح العسكرية الأميركية في الخليج”.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: