الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة15 مايو 2019 12:13
للمشاركة:

الصراع الأميركي الإيراني: حرب الألغام البحرية

جاده إيران- رأفت حرب

وكأنّ الأقدار شاءت أن لا مفرّ من مواجهة مباشرة فوق مياه مشتعلة في الخليج، بين الإيرانيين والأميركيين. بالرغم من تجنّب الطرفين للاحتكاك المباشر، حانت في النهاية لحظة يقف فيها الجميع أمام الحسابات الأصعب.
في تموز/ يوليو 1987، قرر قائد الحرس الثوري الإيراني محسن رضائي، من دون علم مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني، مهاجمة قافلة بحرية تضم ناقلة ترفع العلم الأميركي وترفع اسم “بريدجتون” وتتمتع بمراقبة مباشرة من قبل البحرية الأميركية.
إلا أن نية رضائي جرى نقلها للخميني الذي قام بكبح جماح القائد المتحمّس جداً وأمره أن يدير عملية زرع ألغام متفق عليها وأن يتفادى خوض معركة مباشرة مع الأميركيين.
التزم رضائي بما أُمر به. غادر الزورق جزيرة “فارسي” متوجها عشرين ميلاً غرباً إلى وصل إلى عوّامة اسمها “ميدل شولز”، بعد ذلك توجه شمالاً على طول طريق الناقلة مسافرة عشرة أميال أخرى إلى أن وصل إلى نقطة تضيق عندها حركة المرور فتلتفّ حول منطقة حظر الحرب المعلنة من قبل إيران. قامت عندها وحدة خاصة من الحرس الثوري الإيراني، بعد أسابيع من التدريب على هكذا مهمة، بزرع سلسلة من الألغام بحيث يبعد كل لغم عن الآخر مسافة خمسمئة ياردة، ثم عادت مسرعةً إلى جزيرة فارسي.
في 23 تموز/ يوليو، بعد غروب الشمس تماماً، كشفت العمليات الأميركية لاعتراض الاتصالات قاربين من قوارب الألياف الزجاجية خارج جزيرة “فارسي”. جاء أحد ضباط المخابرات، وهو هاول كونوار زيغلر، إلى حجرة قائده بيرنسن على متن سفينة “لا سال” وقام الاثنان بتقييم الملاحظات ومقارنتها لفهم حقيقة ما يجري، فالتصرفات الإيرانية وما بثته إذاعة الحرس الثوري تشير إلى أن إيران تخطط لمهاجمة القافلة بزوارق سريعة عند مرورها بجزيرة “فارسي”، ومن المفارقات أن الاستخبارات الأميركية كشفت رغبة رضائي في مهاجمة القافلة التي أحبطها الخميني، إلا أنها لم تتوقع عملية زرع الألغام التي كان الإيرانيون قد خططوا لها.
على أثر هذه التطورات، تلقت القافلة أوامر باتخاذ مسار مختلف لتجنّب القناة الرئيسية في الكويت، وأن تبطئ سرعتها كي تصل إلى جزيرة “فارسي” في الصباح التالي لأن النهار سيسمح باستهداف القوارب الصغيرة بصورة أفضل.
عند الفجر، قامت مروحية أميركية باستكشاف الطريق أمام القافلة وكان الطرّاد “يو إس إس فوكس” في الطليعة، وعندما مرّت القافلة بالجزيرة الإيرانية المهدِّدة لم يُشاهد أي قارب. استقبلت وزارة الدفاع هذا الأمر بارتياح كبير، وتم إبلاغ الوزير كاسبر واينبرغر أن أسوأ ما في الأمر قد انتهى. وتوجهت القافلة إلى الكويت، وكان من المتوقع أن يتم تسليم الناقلات للبحرية الكويتية بعد ظهر ذلك اليوم، وبدأ الفطور يُقدّم إلى طاقم السفينة المسؤول عن المراقبة في مقصورة ربان ناقلة النفط العملاقة “بريدجتون”.
فجأة، سمع قائد السفينة، النقيب سيتز، قعقعة معدنية، فقد ضربت موجة هائلة أسفل السفينة فهزّتها على امتداد طولها وكأنّ أحداً ما أمسك بحافة بساط وراح ينفضه بقوة. عندما بلغت الموجة منصة قيادة السفينة “بدا وكأنّ مطرقة وزنها 500 طن ضربت السفينة”، هذا ما يتذكره النقيب ستيز. تطايرت المأكولات في كل مكان وسارع الرجال يتشبثون بما حولهم حتى لا يقعوا أرضاً.
فتح اللغم ثغرة قطرها خمسون متراً مربعاً في جانب الناقلة العملاقة. تباطأت سرعة “بردجتون” لكنها لم تتوقف رغم الضرر الذي لحق بها، فقد كان باستطاعة قعرها الكهفي والفارغ أن يصرّف المياه التي راحت تغرق المقصورات، غير أن السفن الحربية الأميركية الأصغر منها لن تكون محظوظة إلى هذا الحد في ما لو ارتطمت بلغم كهذا، فأخذت تبحث عن ملاذ لها بسرعة خلف الناقلة الكبيرة، وسار الحرس في خط مستقيم وراء “بريدجتون” محتمين بالناقلة لتجنّب ألغام إضافية.
في ساعات الصباح الباكر انتشر خبر اللغم بسرعة في دوائر الحكومة الأميركية. يذكر أحد الشهود أن جورج كريست، الذي كان يراقب العملية من مركز قيادته في تامبا: “وثب عن كرسيّه بكل ما للكلمة من معنى” عند سماعه الأخبار. اتصل الضابط المناوب في مركز القيادة العسكرية القومية بالأدميرال كرو الذي كان نائماً في مقرّه في فورت ماير وأبلغه ما حصل.
اتصل كرو ببيرنسن وسأله: “ما الذي يحدث بحق الجحيم”؟
زوّده بيرنسن بالتفاصيل: “لقد ارتطمت بريدجتون بلغم، ولكن لم يسقط ضحايا وها هو الموكب على وشك الوصول إلى الكويت بنصف سرعته”. استدعى كرو سائقه وارتدى زيّه العسكري فوراً وتوجّه إلى وزارة الدفاع.
عند وصول القافلة بأمان إلى الكويت، جلس بيرنسن في مكتبه في المقصورة الخاصة به، ثم كتب رسالة إلى رئيسه قال فيه: “تعتبر أحداث هذا الصباح تغييراً واضحاً وخطيراً في السياسة الإيرانية حيال المصالح العسكرية الأميركية في الخليج”.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: