الجادّة: طريقٌ في اتجاهين

أدب فارسي: لمحة عن كتاب “نون نوشتن” للروائي محمود دولت آبادي

للمشاركة:

عن الكتابة و محمود دولت آبادي

جاده إيران- ديانا محمود


“كنت على يقين بأنني أستطيع القيام بأمر ما، وهو الكتابة. وقررت أن أفعل ذلك بأفضل شكل ممكن. بهذه البساطة تبدو القصة لكن تفاصيل حياتي مع الكتابة لا يمكن شرحها”. بعبارات بسيطة يتحدّث الروائي الأول في الأدب الايراني المعاصر، محمود دولت آبادي (١٩٤٠) في مقابلته الصحفية الأخيرة عن تجربة الكتابة، فيكشف كعادته عن شوقه الكبير لحفظ ذاكرة الناس في بلده بين دفّات الكتب. ترك مؤلف رواية “كليدر” لأبناء لغته ميراثاً ثميناً من الأدب القصصي المشبع بروح الثقافة الايرانية.
بين أسطر روايات محمود دولت آبادي يبرز هاجس البحث عن الكلمات المفقودة في ذاكرة أبناء هذه الأرض. لا يهتم الكاتب بجذور هذه الكلمات، ولا يدّعي البحث في علوم الألسنيات. كلّ ما يعبر عنه، بوضوح، هو قلق العاشق للغة على ضياع مفرداتها.
من مقاهي منطقة كريم خان في طهران تفوح رائحة الكتب التي تبحث عن أصول الكتابة، يتجمع الشبان لمناقشة أساليب الكتابة. القصة أصبحت هاجساً للجميع حتى أن اصدارات دور النشر الايرانية أصبحت معنية بهذا الهاجس، وتقدم سنوياً كتباً مترجمة من كل العالم حول أسلوب الكتابة، وكيف تصبح كاتباً. يقيم بعض المختصين والكتاب في إيران ورشات لتهذيب القلم الأدبي يرتادها الشبان، لكن دولت آبادي لم يُقم حتى الآن مثل هذه الورشات، وحسب مقابلته الأخيرة فإنه لا ينوي القيام بذلك، فكل ما يمكن تعليمه للآخرين موجود في كتبه.
بالنظر للإنتاج الفكري الذي قدمه صاحب رواية “زوال العميد”، يظهر بوضوح ما قدمه دولت آبادي للارتقاء بالكتابة في بلده. اصداراته الأولى من قصة قصيرة ومسرحيات إلى الروايات الخالدة التي اوصلته للعالمية، كلها قائمة على منهج فكري وهدف معرفي لا يغيب عن تفاصيل حياته. في كتاب “نون نوشتن” جمع دولت آبادي مذكراته بين عامي 1980- 1995 م، ونشرها عام 2010 مخالفاً أعراف الكتاب في ترك مذكراتهم لورثتهم.
“نوشتن” تعني باللغة الفارسية الكتابة، ومع تقدم حرف النون عليها يبدو عنوان الكتاب يعني أول “حرف في الكتابة”، إلا أن كلمة “نون” بالفارسية أيضاً تعني الخبز فيصبح معنى الكتاب إيحاءاً لما تقدمه الكتابة لمن يمارسها من معاش وفائدة. يقول دولت آبادي في مطلع كتابه: (ما ورد في هذه القصاصات كتب خلال ١٥-١٦ عاماً ولم يتم إعمال أي تعديل عليها، رغبتُ أن تبقى النصوص كما هي لتخبرني بما كنت أفكر في ذلك الوقت وتخبركم أنتم اذا ما أردتم).
تحكي مفكرات أهم كاتب حيّ في إيران عن صعوبات الكتابة والنشر، وعن ظلم الرقابة والمنافسين وما تجره من كآبة، يحكي الكتاب كذلك تفاصيل يومية عن الكتابة وكيف يُنشئ الروائي أبطاله وكيف يمضي بهم بين الصفحات، في ظروف معيشية صعبة فرضتها الحرب العراقية الإيرانية والتي أفرزت بدورها مجتمع وصفه الكاتب بالمسخ.
يرى دولت آبادي في مفكراته هذه أن المتغيرات تخرج طبائع السوء في الانسان لكن هذه الطبائع ليست صدفة عابرة، بل هي أصيلة في وجود الانسان تبرز وتتعاظم عند زوال الضمير والأخلاق، أبغضها البخل والحسد فهما مرضين قاتلين لا يمكن معالجة أثرهما.
يمضي الزمن بالكاتب بعيداً نحو الخوف من الكتب، الخوف من ضياع العمر والفقر والحاجة، وعلى الرغم من مبيع كتب دولت آبادي في ذلك الوقت وتسجليه لنجاحات مميزة إلا أنه يُصاب بالإحباط مما يدور حوله في المجتمع آنذاك فيقول: (الكارثة تكمن في طبقة المثقفين والأدباء الذين مضى على ثورتهم الثقافية ٨٠ عاماً ولا زالوا في تعاملهم يجبرون الكاتب على العودة إلى أول حلقة اجتماعية خرج منها إلى عائلته فيستنتج أن أفضل معلم له هو أبوه وأجمل من يجبر خاطره هي أمه).
في مكان آخر من مذكراته يكتب دولت آبادي عن الملل وعن الآلام التي تصيب أي كاتب، يقول: “أشعر بأنني أعيش الأيام يوم بيوم حتى ساعة بساعة، هذا الاحساس بالزمن لحظة بلحظة يخطف عمري من بين يداي ولا يمكنني التخلص من هذا الشعور السيء”. في صفحات أخرى يشكو كاتب السطور قلة انتاج قلمه لما ألمّ به من أوجاع في عظام الرقبة، يقول في إحدى الليالي: “أنهيت كتابة الجزء السابع من رواية كليدر ولكني متعب لدرجة لا يمكنني معها أن ابتهج بما فعلت”.
الأسطر التي اختارها محمود دولت آبادي في مذكراته لا تحكي قصته فقط بل هي حكاية أصدقائه الكتّاب في ذلك الحين، ممن اضطهدهم الآخرون لأسباب مختلفة، يدعو الكاتب قراءه”ليغلقوا أبواب الكلام وليفرشوا جناح الفكر” ويحلقوا معه نحو عالم الكتابة.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: