الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة20 مايو 2023 21:39
للمشاركة:

ممر الشمال – الجنوب خطوة جديدة للالتفاف على العقوبات

لم تكن العلاقات الروسية الإيرانية يوما بهذا المستوى من التقارب القائم راهنا بين البلدين. فالحرب الروسية الأوكرانية جعلت موسكو تقاسم طهران تجربة العقوبات الأمريكية والأوروبية، ودفعتهما الى البحث عن كل الأدوات المتاحة للالتفاف عليها أو على الأقل التقليل من تأثيراتها السلبية على اقتصادهما. لذلك لم يتأخر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اتخاذ خطوات من شأنها تنمية علاقات موسكو بالعديد من عواصم العالم لا سيما الآسيوية والافريقية وعلى رأسها الصين وإيران والهند كرد أولي على العقوبات، وهنا يلاقي طهران في منتصف الطريق إذ أنها تبحث، منذ قرابة أربعة عقود، عن شريك دولي استراتيجي لمواجهة العقوبات التي فرضتها عليها الإدارات الأمريكية المتعاقبة.


خلال توقيع اتفاقية إنشاء سكة الحديد الرابطة بين مدينتي رشت واستارا في إيران (والتي كانت بمثابة الحلقة الأخيرة المفقودة حتى الآن في ممر الشمال – الجنوب) تحدث الرئيسان الروسي والإيراني عبر تقنية الفيديو كونفرنس، عن أهمية هذا الممر في تعزيز المشاريع التجارية والاقتصادية في المنطقة، والتي يُقصَدُ بها المنطقة الممتدة من روسيا ودول القوقاز وآسيا الوسطى مرورا بإيران نحو الدول العربية الخليجية والهند والصين. ومعظم هذه الدول هي أما عضو في الاتحاد الأوراسي أو في منظمة شنغهاي، أو تسعى الى الانضمام اليهما وهما منظمتان تعكسان نموذجا هاما عن التعاون الاقتصادي للدول التي تتصدى للولايات المتحدة سياسيا واقتصاديا، أو على الاقل، تدور خارج فلكها.


تنص الاتفاقية على استثمار روسيا ما يقارب خمسة مليارات دولار في تشييد سكة حديد رشت – استارا بطول 162 كيلومترا لاستكمال إنشاء الممر من مساره الغربي الذي سيعبر الأراضي الأذربيجانية من إيران باتجاه روسيا. وقد تم الاتفاق بين روسيا وإيران والهند في عام 2000 في سان بطرسبرغ على إنشاء هذا الممر الذي يبدأ من سان بطرسبرغ (بإمكانية ربطه لاحقا بأوروبا الشرقية عبر فنلندا) ويصل الى إيران عبر ثلاث مسارات. الأول يعبر آذربيجان من جهة الغرب بربط سكك حديد الدول الثلاث ببعضها، والثاني عبر بحر قزوين ( الخزر)، والثالث من جهة الشرق عبر تركمانستان ليعبر هذا الممر في الأراضي الإيرانية باتجاه مينائي بندر عباس على ضفاف المياه الخليجية وتشابهار على ضفاف المحيط الهندي، ويبلغ طوله حوال 7200 كيلومتر، ويستغرق نقل البضائع من خلاله حوالي 25 يوما بينما يستغرق الأمر أكثر من 40 يوما لنقل البضائع من الهند الى روسيا عبر قناة السويس وتقدر المسافة بحوالي 16000 كيلومتر.


لذلك باستطاعة هذا الممر تشكيل بديل اقتصادي هام عن قناة السويس بخفضه تكلفة الشحن الى نصف القيمة تقريبا كما يقول المسؤولون الإيرانيون والروس. ويرى هؤلاء أن احتكار ممر واحد ( قناة السويس ) لنقل البضائع من آسيا الى أوروبا وبالعكس يؤدي الى انعكاسات سلبية على الاقتصاد العالمي، مشيرين الى إغلاق القناة عدة أيام بعد تعطل حركة الملاحة البحرية بسبب جنوح الناقلة ايفرغيفن في 23 مارس/آذار عام 2021 حيث تقدر خسائر التجارة العالمية ما بين 6 الى 10 مليارات دولار عن كل أسبوع يتم فيه إغلاق قناة السويس، حسب دراسة أجرتها في وقت سابق شركة اليانز الالمانية للتأمين.

يعتبر هذا الممر لموسكو جزءا من سياسة مواجهة العقوبات الغربية المفروضة عليها وسياسة البحث عن أسواق جديدة وتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري مع شركائها الأساسيين في منطقة آسيا

يعد تطوير شبكة نقل البضائع (الترانزيت) عبر الأراضي الإيرانية من أبرز اهتمامات حكومة الرئيس الإيراني الحالي إبراهيم رئيسي، نظرا لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة للاقتصاد الإيراني الذي يرزح تحت عقوبات أمريكية ضاغطة دفعت بالمسؤولين الإيرانيين الى البحث المتواصل عن بدائل لتقليص الآثار السلبية لهذه العقوبات. لذلك يعد ممر الشمال – الجنوب واحدا من عدة ممرات تعمل طهران على إحيائها لتصبح نقطة مركزية للنقل التجاري بين شرق آسيا وآسيا الوسطى والقوقاز والمنطقة العربية الخليجية وأوروبا الشرقية، منها أيضا إحياء ممر باكستان – إيران – تركيا على سبيل المثال لا الحصر. لذلك حاول رئيسي خلال توقيع اتقافية تشييد سكة الحديد الرابطة بين رشت واستارا التركيز على أهمية موقع إيران الجغرافي والجيوبولوتيكي قائلا: «لا يخفى على أحد أن موقع إيران في المنطقة قادر على ربط الإمكانات الهائلة في شرق آسيا باوروبا، وهذا الممر يعتبر هاما للتجارة والاقتصاد في المنطقة، وواجبنا الإلهي والتاريخي في هذه الحكومة هو اتخاذ خطوات لإعادة إحياء قدرات الجمهورية الإسلامية وإمكاناتها التي تضعنا في مكانة نستحقها في النظام الدولي». لكن ما هي الامتيازات التي ستحصل عليها طهران؟ ولماذا تعتبر هذا الممر الذي يطلق عليه البعض طريق الحرير الجديد ممرا استراتيجيا؟


لدى إيران أسباب عديدة لإيلائها أهمية بالغة لهذا الممر وغيره من الممرات التي تجعلها حلقة وصل تجارية في المنطقة ومن تلك الأسباب:

  • تعزيز تعاونها الاقتصادي وعلاقاتها التجارية مع العديد من دول العالم لا سيما دول آسيا، حيث تسهل هذه الممرات تصدير البضائع الإيرانية الى تلك الدول.
  • تمتين العلاقات السياسية انطلاقا مما يعرف بالدبلوماسية الاقتصادية التي تعززها هذه الممرات.
  • توفير مظلة مُحكمة أمام العقوبات الأمريكية وبالتالي إحباط مفاعليها أو تقليص تأثيراتها لمستويات متدنية.
  • إفشال أحد أبرز أهداف العقوبات الذي تحدثت عنه الإدارة الأمريكية مكررا وهو فرض عزلة دولية على إيران.
  • توفير مليارات الدولارات سنويا لإيران من عملية نقل البضائع عبر أراضيها خاصة أنه يتوقع أن تكون قدرة ممر الشمال – الجنوب الاستيعابية وحده أكثر من 30 مليون طن سنويا عام 2030.
  • الانتقال بالعلاقات الإيرانية الروسية – التي توطدت أكثر في الآونة الأخيرة – الى مستوى آخر لا سيما أن هذا الممر يشكل عاملا مؤثرا في تسهيل إجراء الاتفاقية الاستراتيجية طويلة الأمد بين البلدين لمدة عشرين عاما، والتي باتت في مراحلها الأخيرة وتشمل عدة مجالات أبرزها التعاون العسكري والاقتصادي والسياسي والأمني.
  • المساعدة على تعزيز الأمن الإيراني على اعتباره جزءا من الأمن الاقتصادي للدول المستفيدة من ممر الشمال – الجنوب.


كيف تستفيد روسيا من هذا الممر؟ يلقي بعض المراقبين الإيرانيين اللوم على روسيا في تأخير تنفيذ هذا المشروع الذي تم الاتفاق عليه عام 2000 كما ذكرنا آنفا، حيث لم تكن الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية كما هي عليه اليوم. لذلك يعتقد كثيرون أن موسكو تحركت باتجاه تفعيل هذا الممر بعد بدء حربها ضد أوكرانيا وتعرضها لعقوبات اقتصادية أوروبية وأمريكية، وذلك ضمن إطار محاولاتها لتعزيز علاقاتها التجارية أكثر مع دول آسيا لا سيما تلك التي لا تعير اهتماما للعقوبات الغربية. وقد تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عام 2022 عن أهمية هذا المشروع للاقتصاد الروسي قائلا: «إن هذا الممر يساهم في توفير فرص جديدة للشركات الروسية في الأسواق الهندية والإيرانية والشرق الأوسط وحتى افريقيا».


لذلك يعتبر هذا الممر بالنسبة لموسكو جزءا لا يتجزأ من سياسة مواجهة العقوبات الغربية المفروضة عليها وسياسة البحث عن أسواق جديدة وتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري مع شركائها الأساسيين في منطقة آسيا، أي الصين والهند وإيران، وهو شريان حياتي بالنسبة لها لنقل البضائع الى الدول الخليجية عبر الموانئ الإيرانية والى دول شرق آسيا خاصة انه آمن ومجدٍ اقتصاديا، على عكس ممر قناة السويس باتجاه بحر البلطيق الذي لم يعد يعتبر آمنا برأي البعض بعد التوترات الأخيرة على خلفية الحرب في اوكرانيا.


هل هناك موانع تعترض تفعيل هذا المشروع؟


لا يمكننا الإشارة الى موانع جدية طالما أن هذا الممر يصب في مصلحة كلا البلدين ضمن رؤية اقتصادية وسياسية وأمنية متقاطعة، لكننا سنذكر عدة نقاط قد تشكل عائقا أمام الاستفادة القصوى كما يطمح كلا الطرفين:

  • ضعف أسطول السفن التجارية لنقل البضائع بين البلدين في بحر قزوين، وهذا من شأنه أن يخفض الاعتماد على المسار الذي يعبر البحر من الضفة الإيرانية الى الضفة الروسية فضلا عن تعرض مرفأ استراخان الروسي الى موجة جليد حادة في فصل الشتاء ما يعرقل وصول السفن في تلك الفترة.
  • التوتر السياسي الذي حصل بين أذربيجان وإيران عقب الحرب الأذربيجانية الأرمينية عام 2020 في محور قرباغ، حيث اتهمت باكو طهران بالوقوف الى جانب يريفان بالرغم من النفي الإيراني المتكرر. وأعقب هذا اتهامات إيرانية متكررة لاذربيجان بالسماح لإسرائيل بشن هجمات استخبارية وهجمات تخريبية عبر المسيّرات على مواقع إيرانية حساسة انطلاقا من أراضي أذربيجان، يضاف الى ذلك حملة الاعتقالات التي تشنها أذربيجان حاليا ضد مجموعات تقول إنها مرتبطة بإيران. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الرئيس إلهام علييف سيقف عائقا أمام تنفيذ هذا المشروع، خاصة أن باكو حريصة على علاقاتها مع روسيا رغم علاقاتها الجيدة مع الولايات المتحدة كما هي حريصة على الاستفادة من امتيازات هذا الممر الاقتصادية وعلى العائدات المالية الهائلة التي يوفرها.

المصدر/ القدس العربي

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: