الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة15 مايو 2023 11:38
للمشاركة:

عدنان غريفي ومكانة الكاتب العربي الأهوازي في لغة الآخر

مدخل

عندما يودّع هذا العالم أحد أبرز الكتّاب والشعراء والمترجمين والنقّاد والإذاعيين والمناضلين الاجتماعيين، تبقى في حيرة من أمرك في ما ستقول، إذ لا تعرف كيف لك أن تجد كلمة لم يقلها هو في سنينه الستين بعرق روحه، لا سيّما وأنّ هذه الشخصية التي لا مثيل لها هي عدنان غريفي.
غريفي كاتب من أصل عربي، تأثر بأكثر من ثقافة وتاريخ مشرق مليء بالتقلّبات. من جهة يربطه تعلّق بلغته وثقافته العربية، ومن جهة أخرى هو متجذر في التصوّف العربي والأساطير العربية، كما بصفته كاتبًا طلائعيًا ورائدًا ومبادرًا جادًا في الحداثة في أدب جنوب إيران كان عليه أن يعرف الأدب الكلاسيكي والحديث للغرب، ثم على طريقة المناضلين الشباب في ستينيات القرن العشرين أصبح يساريًا. وفي نهاية المطاف، تم اعتقاله إلى جانب عدد من الكتاب الجنوبيين الآخرين، من قبل جهاز الأمن الإيراني آنذاك “السافاك”، حيث قضوا عامين ونصف العام في سجن كارون في الأهواز.

عدنان غريفي ومكانة الكاتب العربي الأهوازي في لغة الآخر 1

عدسة/ حميد جاني بور

النشاط الأدبي المهني

ولد غريفي في 2 حزيران/ يونيو 1944 في مدينة المحمرة جنوب غرب إيران. بدأ نشاطه الأدبي في ستينيات القرن الماضي بإصدار مجلّة “الفن والأدب الجنوبي” (بالفارسية: هنر و ادبيات جنوب). كان غريفي كاتبًا ومترجمًا عن العربية والإنكليزية إلى الفارسية، وهو أحد أوّل المترجمين الذين ترجموا أعمال أبرز الكتّاب الأوروبيين والأميركيين إلى الفارسية، كأعمال “دي. جي. سالينجر”، “إيتالو كالوينو”، “جايلس كوبر”، “بوهميل هرابال” و”خوسيه ترايانا”، كما أنه من أول مترجمي الأدب العربي المعاصر إلى الفارسية، حيث ترجم للمرة الأولى قصيدة “قبر من أجل نيويورك” للشاعر والمفكّر العربي أدونيس، و”أشعار المنفى” للشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي. ونقل لأول مرة الرواية العربية إلى اللغة الفارسية بترجمة روايتَيْ “رجال في الشمس” و”أم سعد” للكاتب الفلسطيني غسّان كنفاني. إضافةً إلى ذلك، ساعد إتقان اللغة الإنكليزية هذا المترجم على قراءة الأدب الإنكليزي، ونقده، ونظرياته. ومن وحي هذه القراءات خلق غريفي زوايا عديدة في القصة والشعر والنقد والنظريات الأدبية.
واستولى الجهاز الأمني لمحمد رضا شاه “السافاك” على كتب عديدة كان عدنان قد ألّف بعضها وترجم بعضها الآخر، مثل كتب في نقد أعمال “ويليام فاكنر”، “أنطون تشيخوف” و”فئودور داستايوفسكي”، ودواوين شعرية له مثل “من معسكر العاصفة” (بالفارسية: از اردوكاه توفان)، “قيامة كارون” (بالفارسية: رستاخيز كارون)، “حمامة السلام” (بالفارسية: كبوتر صلح)، وترجمة مجموعة “كلمات لا تموت” لعبد الوهاب البياتي.
وكان غريفي أحد أقرب الأصدقاء للشاعر الإيراني المعاصر أحمد شاملو الذي كان يترأس مجلّة “خوشه” الأدبية، وقد ترجم قصصًا عديدة من أدب أميركا اللاتينية نُشرت في تلك المجلة. وبعد انتهاء سنوات السجن، التحق عدنان بالإذاعة الوطنية بدعوة من المترجم رضا سيد حسيني.
كما استطاع غريفي أن يعمل في الإذاعة كرئيس تحرير وكاتب ومترجم ومحرّر ومذيع ومنقّح، حيث أنتج العديد من البرامج الأدبية، مثل “الكوميديا وكوميديو العالم”، “لقد قرأنا لكم” و”القصة القصيرة في العالم”. ونشط الكاتب في السينما أيضا لفترة من الزمن خلال سبعينيات القرن الماضي، عندما كان في ريعان شبابه، فكتب وحرّر سيناريوهات عدة لأفلام وثائقية وروائية، من إخراج المخرج الجنوبي حسن بني هاشمي. ومع سقوط نظام الشاه، تم استبعاد غريفي مثل كثير من زملائه من الإذاعة والتلفزيون، فعمل مترجمًا وصحافيًا لسنوات عدة، حتى بداية الثمانينيات، عندما أصبحت حياة المثقفين والكتّاب اليساريين صعبة، فهاجر إلى إيطاليا ثم إلى هولندا.

عدنان غريفي ومكانة الكاتب العربي الأهوازي في لغة الآخر 2

عدسة/ حميد جاني بور

فترة السجن

في فترة السجن واجه بعض التجارب التي أثارت تأمّله وتفكيره. يقول غريفي في كتاب “حوار طويل مع عدنان غريفي” (تأليف حبيب باوي ساجد، دار نشر أفراز، عام 2010): “سأخبرك بما صادفته في السجن، وما جعلني أميل إلى الواقعية. أتذكّر جيدًا، في اليوم الأول عندما دخلنا السجن وكانوا قد حلقوا رؤوسنا، وكانوا يحددون أماكننا، شاهدت شابًا وسيمًا واقفًا يمشّط شعره أمام المرآة؛ كُتب على ذراعه: سوف أُعدم في تاريخ كذا وكذا. كانت قد مرّت خمس أو ست سنوات منذ ذلك التاريخ. ارتعبت عندما رأيت صراع الحياة وما ينتظره. يا صديقي.. هذا الشاب كان ينتظر إعدامه، بهذه البساطة! قبل السادس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر (ذكرى ميلاد محمد رضا شاه) يحدث شيئان: أحدهما هو العفو (تخفيض مدة السجن) والآخر أن يتم إعدام من حُكم عليهم بالإعدام. لقد شاهدت هذا الرعب مرّتين، وكتبته قصة، وبالطبع لم أنشرها. لقد رأيت محكومًا عليه بالإعدام يقوم بتمشيط شعره، وشخصًا آخر قام بفتح ثقب في زاوية من زوايا السجن حتى يتمكن من الهروب منه. تعجبت عندما رأيت الأمل إلى أين يقود الإنسان. تخيّلوا أنه حطّم الطوب والاسمنت وكل هذه الأشياء بشيء بسيط، لأشهر وأشهر وللمرة الرابعة تم القبض عليه ونقلوه إلى الزنزانة الانفرادية. وبعد انتهاء مدة الحبس المنفرد، كان يأتي إلينا ويقول إنني سأواصل عملي وأهرب في النهاية. كان هناك سجين عربي يردّد شعارات مثل “دان كيشوت”! مثلًا، عندما كنا ننام في الليل، كنا نسمع هذا الشخص يتحدث ويتجادل في فناء السجن، وكان صوته يأتي من جميع أركان السجن (لأنهم كانوا يجبرونا أن ننام في الفناء). رأيت سجناء آخرين، مثل الرجل الذي كان يعتني بنفسه دائمًا حتى لا يمرض! كان وصيًّا في السجن. يدفع له أهل المعتقلين المال ليشتري حاجات للسجناء، وهذا الشخص لم يتدخل في أي إضراب أو حديث حدث في السجن، كان يبدو مثل الحجر. أستطيع أن أخبركم بالعديد من التفاصيل عن السجن، التفاصيل التي دفعتني لأن أصبح واقعيًا مرة أخرى، وكان أول عمل واقعي لي هو “أم النخلة” (بالفارسية: مادر نخل) الذي نال إعجاب أصدقائي، ومن بينهم الكاتب الشهير الأهوازي أحمد محمود”.

عدنان غريفي ومكانة الكاتب العربي الأهوازي في لغة الآخر 3

عدسة/ حميد جاني بور

أم النخلة

بعد تجربة السجن، حدث تحوّل كبير في الموقف الاجتماعي، وحتى تغيير في كتابة القصة عند غريفي. في الستينيات من القرن الماضي، كان الرجل يكتب قصصًا قصيرة حزينة وُصفت بالسريالية، وينشرها في مجلة “الفن والأدب الجنوبي”، لكنه كان يعتقد بأنّ تلك القصص كانت نتاج التصوّف والنهج الكلاسيكي للنصوص الدينية والأسطورية العربية. ثم في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، نشر تلك القصص في كتاب بعنوان “ذو المعطف في الضباب” (بالفارسية: شنل بوش در مه). بعد السجن، تحوّل إلى الواقعية، وكانت القصة الطويلة “أم النخلة” أول وأهم عمل له بعد هذا التحوّل. حكاية “أم النخلة” هي قصة تدمير أساس الأصول الثقافية والاقتصادية للمنطقة العربية، والتي تبدأ مع تدمير مزارع النخيل الضخمة لعائلة الراوي، والتحوّل التدريجي لعائلته من شبه إقطاعية إلى الفقر المدقع، كما تروي انحطاط مجد الأصول العربية على ضفاف الشاطئ والخليج. لقيت “أم النخلة”، التي كان من المفترض أن تتحوّل إلى فيلم روائي طويل في السبعينيات، استقبالًا أدبيًا ملحوظًا، وتمّت طباعتها ونشرها مرات عدة خلال العقود الخمسة الماضية.

الهجرة أو المنفى

بعد سقوط نظام الشاه، كان غريفي من بين الكتّاب والمثقفين الذين عاشوا في ظروف خاصة وصعبة. نتيجة لذلك، استسلم للمنفى رغمًا عنه وهاجر إلى أوروبا. في السنوات الأولى، لم تكن له إمكانية النشاط الأدبي بالقدر الذي كان ينبغي أن تكون عليه. وبعد سنوات، تمكّن من النشاط في العديد من المجالات الأدبية والصحفية.
وبالنظر إلى خبرته وأنشطته الصحفية، ومساعيه الأدبية في مجلات مثل “الفن والأدب الجنوبي”، “خوشه” و”تماشا”، حاول غريفي إصدار مجلّة أدبية ربع سنوية في هولندا. وكان نتاج هذا الجهد المضني هو إصدار مجلة “فاخته” (أي الوقواق) ربع السنوية، وقد تم طبعها ونشرها في سبعة أعداد، وفي النهاية توقف عن إصدارها بسبب عدم إقبال قرّاء اللغة الفارسية عليها.
في السنة الثانية والعدد السابع من هذه المجلة عام 1997، ناقش على وجه التحديد الأدب العربي المعاصر. في هذا العدد من مجلة “فاخته”، قام غريفي نفسه بترجمة البحث الشامل للدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي عن الشعر العربي المعاصر. كما قام بترجمة “مستقبل الرواية العربية المعاصرة” للكاتب محمد صديق، ونشرها في نفس العدد. وترجم أيضا بطريقة مشوقة “البداية والنهاية: جوانب الأسلوب في القصة القصيرة العربية الحديثة”، من تأليف روجر ألن، و”في مرحلة البناء: قصة بور وهيكلة الهوية” من تأليف ندا اليا في نفس العدد من المجلّة. أجل، قام غريفي، بعمل أدبي كبير، بقدر ما تقوم به مجموعة ومؤسسة، وهو أمر لا يعرفه كثير من الناس.

قصص المنفى وقصائده

مثل كل كاتب وفنان مستقل، لم يعرف غريفي سوى مهنته، وهي الفن والأدب. لهذا السبب، ظلّ يواجه الأدب وجهًا لوجه في كل مكان يلتفت إليه. بالإضافة إلى نشر مجلّتَيْ “فاخته” و”برستو”، نشر مجموعتين من القصص بعنوان “حمامة الحب” (بالفارسية: مرغ عشق) و”أربع بنايات في طهران بارس” (بالفارسية: چهار آبارتمان در تهرانبارس)، كما نشر أربع مجموعات شعرية بعنوان “واحدة من الكوميديا” (بالفارسية: يكي از كمدي ها)، و”أجمع التواقيع للمحمرة” (بالفارسية: براي خرمشهر امضا جمع مي كنم)، و”موعد الانطلاقة: اليوم في هذا المكان” (بالفارسية: برنامه حركت: امروز، اين جا)، و”قصف الملائكة” (بالفارسية: به موشك بستن فرشتكان).
توجه الكاتب في قصصه وقصائده المنشورة في أوروبا، بطريقة ما، إلى واقعية صريحة، وعلى عكس القصائد والقصص المكتوبة في إيران، تجنّب تمامًا الرمزية والاستعارات. طبعا هذا النهج الجديد لغريفي في الشعر والقصص لم يكن خاليًا تمامًا من التفسير النصي، فإضافة إلى أنّ غريفي كتب في هذه القصص والقصائد في قمة الجمالية، لجأ بشكل أساسي إلى نوع من السيرة الذاتية في أشعاره، وحوّل شعره إلى حديث عن النفس، وأحيانًا أخذه حديث النفس إلى وطنه وتحدث عن حنينه في المنفى، وأحيانًا تحوّل حديث النفس إلى رومانسيات، أخذته من “فتاة هولندية خلية البال” إلى فتاة عربية محمراوية. وكتب عدنان غريفي في شبابه عن حزن أمّته العربية في أجزاء من قصيدته الطويلة “هذا الجانب من عطر القبيلة” (بالفارسية: اين سوي عطر قبيله):
يوم ذهب قومي أفواجًا أفواجًا إلى الملحمة
من كنت أنا يا “فائزة” من كنت
لأشرب كأسي بجانب أجمل نخلة؟
يا نخلتي
أي جانب قد اختاره قومي؟
ــــــ
وفي قصيدته لمسقط رأسه “أجمع التواقيع للمحمرة”:

لصوت “حمد” الفلاح
أجمع التواقيع.
لك أنت أيتها النخلة، يا حبي السامي
أجمع التواقيع.
للعصافير المتيّمة
وللحمامات المتسامحة
ولـ “شبوط” كارون
و”البرزم”
وألوان “الشانك”
أجمع التواقيع.
لأوركسترا “الزوري”، راقصات الباليه في نهري الأزرق
حول القرش الذي مات في الحرب، هذا إدراك المياه المفترس
أجمع التواقيع.
لانهمار دموعي الآن مثل المطر، كما ترى
ولنفسي التي تكاد أن تجن في فراق كل هذا
يا الله
لنفسي
أجمع التواقيع.
وإلى وإلى وإلى
ولبقية شعري
أجمع التواقيع
وأرسل العريضة لمقرّ الصمت.
ولكم أنتم، لا أجمع التواقيع.

تحدث غريفي مع كاتب هذه السطور عن مقاربته للواقعية، فقال: “أقدّم أسبابًا قد لا تكون في الحقيقة أسبابًا واقعية. يا عزيزي يا “حبيب”! لقد نشرت العديد من قصصي الأخيرة في هولندا وكتبتها في هولندا؛ أي في أرض تحكمها ديمقراطية مطلقة. لذلك، لا أرى أي سبب لإخفائها. في الحقيقة، إنني كنت راغبًا أكثر فأكثر للاقتراب من الواقعية، بحيث أتجاوز الواقعية؛ أي التعبير عن الواقع بشكل ملموس جدًا وقريب جدًا. هذه المدرسة الفكرية وهذا الأسلوب في التفكير وُجد قبلي في الواقعية الحديثة للسينما في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، وفي السينما الفرنسية بعد انتفاضات الستينيات، والتي بدأت بالطبع في أمستردام، ولكن انتشرت في جميع أنحاء أوروبا، مثل “جون لوك غودار” و”فرانسوا توروفو” وآخرين. ثم نرى ذلك في سينما الواقعية الإيطالية، والتي تُعتبر فيها “فيتوريا ديسيكا” من أبرز الشخصيات، حيث قامت بفيلم “سارق الدراجة الهوائية” الذي لا يحتوي حتى على سيناريو. هناك فكرة عامة من “سارق الدراجة الهوائية” في ذهن “دسيكا”، ثم اختارت شخصًا عاديًا ليؤدي دور بطل “سارق الدراجة الهوائية”، وفي هذا الاتجاه كانوا يجتهدون في لفت انتباه الناس إلى الواقع الذي أمام أعينهم قدر الإمكان. أنظر، هذه ليست مهمة سهلة، لا من الجانب الفني ولا من جانب الحياة الطبيعية. هذا يعني أننا نفهم الواقع الذي يحدث أمام أعيننا. آمنت وما زلت أعتقد بأنّ مهمة كل نشاط بشري يجب أن تكون تحسين الحياة. ومن أجل تحسين الحياة، يجب أن نعرف الواقع”.

عدنان غريفي ومكانة الكاتب العربي الأهوازي في لغة الآخر 4

العودة من المنفى

في عام 2004، في إطار برنامج “تقييم قدرات أدب الجنوب”، أُقيم أيضًا حفل تكريم لغريفي. لكن كيف يعود الكاتب الذي كان غائبًا عن وطنه حتى ذلك الحين؟ من خلال التواصل مع وزارة الداخلية الإيرانية والعديد من المكالمات ولقاءات الوساطة، لقد سُمح للمنظمين أخيرًا بدعوة غريفي لحضور الحدث. هكذا عاد إلى وطنه بعد سنوات طويلة. ولدى وصوله، رحّب به أهل الثقافة والفن، وأجريت معه مقابلات من قبل العديد من المجلّات في الأهواز وغيرها من مجلات إيران. بعد سنوات عديدة، أصبح غريفي مرة أخرى عنوانًا لأخبار الأدب والفن. هذا الاعتراف والتفكير جعله يأمل بمستقبل إبداعاته الأدبية. في الوقت نفسه، أجرى باوي ساجد حديثًا طويلًا معه، نُشر بعد سنوات قليلة في كتاب بعنوان “حوار طويل مع عدنان غريفي”. كما بدأ باوي ساجد تصوير فيلم وثائقي طويل عنه من نفس العام وحتى الآن، والذي سيغطي جميع مراحل أعوامه العشرين الأخيرة من حياته. نشرت دار “أفراز” للنشر في إيران، بصفتها الناشر الحصري لأعمال غريفي، كتبًا عدة منشورة سابقًا وغير منشورة لغريفي. وبهذا أصبح من الممكن لرجل أن يرى بأمّ عينه أنّ نخلته الأدبية البالغة من العمر أربعين عامًا قد أصبحت جذعًا قويًا.

الجلسات العربية وترجمة أعماله إلى لغته الأم

من أهم الأحداث وأكثرها تأثيرًا على غريفي هو تعرّفه على نخب الأهواز، من كانوا في الغالب أهلًا للفنّ والأدب والسينما، من خلال عقد الجلسات الأدبية في البيوت وتجمّعات العائلات. أعادته هذه الجلسات إلى تنور الطين والشط وخبز التنور وسمك “الصبور” (نوع سمك يوجد في شط العرب فقط وتشتهر به المحمرة في إيران والبصرة في العراق) وجلسات الأحباب. في مثل هذه الجلسات، كان غريفي يغنّي مع “أم كلثوم” و”نجاة الصغيرة” و”عبد الحليم حافظ” و”محمد عبد الوهاب”، والأغاني العراقية والأهوازية الشعبية، وفي بعض الأحيان كان ينتشي، ويغنّي الأوبرا.

الفقيد يغني أحد أغاني أم كلثوم


ومن الشخصيات المؤثرة على غريفي في الأهواز، بخلق نفسية مرحة وفرحة ومفعمة بالحيوية مع الموسيقى والشعر كان هادي آل بو شوكة (الأديب ومترجم الشعر العربي إلى الفارسية الذي توفي قبل غريفي بأسبوعين). وفي مثل هذه الجلسات، تم اقتراح ترجمة أعمال غريفي إلى اللغة العربية. إلى جانب حسرته لجهة أن يصبح مغني أوبرا، كانت حسرته الأخرى أنه لم يكتب بلغته الأم، وهي اللغة العربية.
على الرغم من إتقانه الفريد لقراءة اللغة العربية، إلا أنه لم يكتب أي أعمال بهذه اللغة. هو الذي كان يقول: “حتى لو فرضوا عليّ لغة الإشارة، سأتعلّمها بأفضل طريقة ممكنة”، فقد كان قادرًا على استخدام اللغة الفارسية بأفضل طريقة ممكنة، واستخدام الجماليات وتقنية كتابة القصة، ليكتب من المعاناة والفقد الذي تحمّله أهله العرب.
وكانت قصيدة “هذا الجانب من عطر القبيلة” رثاءً عربيًّا لموطنه الموسوم بالنخيل، وأيضا قصة “أم النخلة” التي كتبها في سجن “كارون” بالأهواز في ستينيات القرن الماضي. كان غريفي هو الراوي الوحيد لأرضه العربية لسنوات عديدة، فإذا كنّا نشهد اليوم انتفاضات مهمة في مجال الأدب العربي الأهوازي، وكذلك في كتابة القصة الفارسية، فلا يجب أن ننسى الجهود الدؤوبة لشخص مثل غريفي، الذي كان البادئ الجاد لرواية واقع أرضه العربية المهمشة.
غريفي الذي أحب لغته العربية وترجم مجموعة مختارة من أفضل القصص والأشعار من العربية إلى الفارسية، في آخر أيام حياتهأمسك ترجمة روايته “القروش” (بالفارسية: سكه ها) التي ترجمتها إلى العربية الشاعرة والمترجمة الإيرانية الأهوازية هناء مهتاب، وضمّها إلى صدره، وكان سعيدًا لأنه على الرغم من أنه لم يكتب باللغة العربية، فقد تُرجمت روايته أخيرًا إلى لغته الأم. كانت رواية “القروش” أول رواية نشرها غريفي، ثم ترجمتها مهتاب إلى العربية، ونشرتها دار “دراويش” للنشر في ألمانيا عام 2022. في هذه الرواية، يتعرّف القارئ على تاريخ المحمرة المعاصر. ينقل الراوي (أو الراصد) هذا التاريخ للقارئ من دون تحويله إلى مجرّد تقرير. خلق الأجواء وخلق المشاهد الحميمة إلى جانب البنية العربية من أبرز سمات رواية “القروش”، ومنها:
ـ “كلام خالتك بسيط وطبيعي ومهم جدًا.
صمت خالي، کان دائمًا وعندما یرید إجابتي بشکل جدي ینظر لمکان بعید، فنظر وقال:
ـ لکل شخص حقه في التعلّم باللغة التي یشاء، خاصة إذا کانت لغته الأم

أذکر أنه کانت في مدینتا مدرستان عربیتان.

ـ لماذا لا تسجّل خالتي ابنها في تلك المدرسة العربیة؟

ـ لأنها مدرسة العراقیین، لا یمکنها ذلك.

ـ لم لا؟

ـ لأننا لسنا عراقیین.

ـ لکننا عرب.

لا أدري لمَ أحسست بأنّ خالي یکلّمني بحذر. إني وبحکم التجربة، کنت أعلم بأنّ خالي وعندما کان یظن بأنّ سني لا یسعفني لفهم أمر، أو عندما لم یشأ أن یجیبني بصراحة، کان یفکر ملیًّا ومن ثم یجیبني، لأنه کان قد قال لمرات عدیدة لي إنّ کل الناس من صغیرهم وکبیرهم یجب أن یُؤخذوا علی محمل الجد.

ـ نعم نحن عرب لکننا عرب إیرانیون.

ـ لکن یا خالي نحن نتکلّم مثل أبناء الحاج جاسم تماماً وهم یذهبون إلى مدرسة عربیة.

ـ لقد قلت لك، هم عراقیون.

علم خالي بعدم اقتناعي، لکني کنت أحترمه مع أنه کان قد قال لي إنه لیس احتراما بل خوف وحذر”.

*حبيب باوي ساجد (مخرج سينمائي وقاص وناقد)

  • ملاحظة: إن المعلومات والآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جاده إيران وإنما تعبّر عن رأي كاتبها
جاده ايران تلغرام
للمشاركة: