الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة3 مارس 2023 10:26
للمشاركة:

جواد طباطبائي.. مفكر متبحّرٌ في الهوية الإيرانية

قبل أيام ودعت إيران جواد طباطبائي، أحد أهم المفكرين المغتربين المثيرين للجدل، الذي فارق الحياة من أحد مستشفيات كاليفورنيا في الولايات المتحدة. وإن لم يكن الرجل منفيًا بشكل رسمي، إلا أنً حرمانه من العيش في بلده بسبب عدم انسجامه مع السياسات الرقابية، وطرده من وظيفته ومحاربة أفكاره، هو بالفعل أقرب ما يكون للنفي.

طباطبائي مفكر وباحث أكاديمي ومترجم، مهتم بقضايا السياسة والتاريخ والثقافة الإيرانية، ولم يدخر جهدًا في البحث داخل مشكلات الهوية الإيرانية، فهو الذي تُعرف عنه قوميته المفرطة، إلى جانب الليبرالية المفرطة أيضًا، كما يُعتبر من المفكرين الذين طرحوا وجهات نظر مختلفة لتفسير التاريخ، خاصة عندما تبنّى بعض النظريات التي حاول من خلالها تقديم حلول للصراع التأريخي والثقافي في بلاده.

ومما يدعو للأسف عدم ترجمة كتبه للغة العربية ولا حتى مقالاته، ولعلّ ذلك ما أدى إلى عدم الإتيان على ذكره في المحافل العربية إطلاقًا، مثل كثير من المفكرين الإيرانيين المحدثين الذين لا نعرف عنهم شيئًا، في حين تقتصر الذاكرة العربية على عدد محدود من المفكرين الإيرانيين ، كعلي شريعتي على سبيل المثال.

ووُلد طباطبائي عام 1946 في مدينة تبريز شمال غرب إيران، من عائلة آذرية، لكنّ ذلك لم يمنعه من الاعتراف بأنّ إيران تضم مجموعة من العرقيات الأخرى، كنتيجة للهجرة إلى هذا البلد على مدى مئات السنين.

أجاد طباطبائي خلال مسيرته التعليمية اللغتين الفرنسية والعربية، كما التحق بالحوزة في تبريز، حيث درس فيها اللاهوت والفقه للملا السبزواري، ثم انتقل إلى جامعة طهران لدراسة القانون، وبعد إلى حلقات هنري كوربان التي كان يلقيها بالفرنسية في نفس الجامعة.

وبعد تأديته للخدمة العسكرية في العاصمة الإيرانية، في فترة كان منشغلًا فيها أيضًا بقراءة الأدب والفكر الغربيين، تمكّن الرجل من الحصول على منحة دراسية في فرنسا، حيث اجتاز امتحان القبول في جامعة السوربون ليتخرّج منها في اختصاص الفلسفة السياسية بشهادة الدبلوم العالي.

وخلال سنواته في باريس، تحوّل طباطبائي من طالبٍ إيراني متخم بالفكر الديني والروحية، إلى رجل ليبرالي ماركسي، فراح يتابع محاضرات الفيلسوف الفرنسي الماركسي لويس ألتوسير، وقد زاد اهتمامه بفكر لينين وهيغل.

في عام 1985، عاد طباطبائي إلى إيران وفي جعبته مسودة لرسالة الفلسفة، لينال درجة الدكتوراه الفخرية في الفلسفة السياسية من خلال أطروحته التي جاءت بعنوان “تطوّر الفكر السياسي لهيغل”، وليُعَيَّنَ أستاذًا مساعدًا في كلية العلوم السياسية في جامعة طهران.

بدأت خطاباته السياسية التي ورثها من الفكر الماركسي تتصاعد، وأخذ صوته الليبرالي يصدح في أرجاء الجامعة التي تهتم الدولة دائمًا بما يجري داخلها، باعتبارها أحد المراكز التي تنشر الفكر الإسلامي. ومن دون سابق إنذار، أبلغته رئاسة الجامعة بقرار طرده من الوظيفة، وتجريده من اللقب الأكاديمي بلا ذكر للأسباب. وما عُرف لاحقًا في هذا الإطار أنً قرار طرده جاء بعدما وُصف بالليبرالي، والعلماني الخطر، فردّ طباطبائي بأنهم لا يعرفون حقيقة العلمانية ولا يعرفون من هو الليبرالي، فقال: “أنا.. هو ما أنا عليه”.

صحيح أنه كان علمانيًا، ولكن علمانيّته قد تختلف وتتقاطع مع رؤية العلمانيين، حيثُ يرى أن الغرب فسر مفهوم العلمانية بأنها فصل الدين عن الدولة، لأن المسيحية دين للآخرة فحسب، بينما هو يرى أن الإسلام دين للآخرة والدنيا أيضاً، لذلك فهو يؤكد أنّ الإسلام كان دينًا علمانيًا منذ البداية.

ويشدد طباطبائي على استحالة تسليط مشروع الإصلاح الديني الغربي على الإسلام، موضحًا إنّ العلمانية في الغرب استخدمت مفتاحًا لقفل الدين المسيحي لا يمكن استخدامه للدين الإسلامي، على حد تعبيره.

وجاء في أحد كتبه ما معناهُ أنّ الذين يعتقدون بالعلمانية كعلاج لآلام كل البلدان، يقعون في الفخ عندما يكون ذلك في بلد مثل إيران، ويكون النقاش فيه عن الإسلام.

ويتابع: “أسئلة الغرب في الأمس هي أسئلتنا اليوم، ولكن غالبًا إجاباتهم لن تكون منطبقة تمامًا على أسئلتنا، فثمةَ صراعٌ بين الحداثة الغربية والحداثة في إيران، تلك التي تواجه معوقات التقليد”.

طباطبائي اتّبع في هذا الإطار منهجًا يختلطُ فيه التاريخ بالسياسة والدين والفلسفة، ليُقدّم رؤية أكثر شمولية للفكر. ورغم تأثرهُ بهيغل، فهو يعود دومًا إلى أسس التراث الإسلامي ولا ينفكُ يتحدث عن كلام كل من ابن خلدون، الفارابي، الطوسي، الرازي، ابن سينا، مسكويه وآخرين.

ومن أهم الأعمال التي وضعها طبطبائي هو كتابه “انحدار الفكر السياسي في إيران”، الذي أسس فيه لأطروحته الشهيرة التي سماها باللغة الفارسية “ايرانشهر”، قيّم من خلالها الفكر السياسي في إيران الذي أشار إلى أنه وصل أخيرًا إلى الانحدار، وذلك يعود برأيه بشكل أساسي لاستبدال الحكومة الهوية الإيرانية بالدين والأيديولوجية الحديثة.

ووفق المفكّر الإيراني، فإنّ الفكر السياسي هو نتاج لثقافة مجموعة من الدول والأمم انضمّت لحدود إيران الثقافية، بما معناه استحالة أن يتم قطع الصلة بالموروث الثقافي الذي امتلكته إيران قبل الإسلام، مما لا يسمح تحت أي عذر باستبعاد أو تهميش أي فرد إيراني.

ولفت طباطبائي إلى أنّ الدول المستقلة تمتلك مصيرها السياسي الخاص، لكنها بسبب الموقع الجغرافي هي جزء من الثقافة الإيرانية، حيث شاركت بتأسيس الحضارة الإيرانية، وقد عرّضته تلك الآراء للنقد والاتهامات، ورمته في مواجهة مع النظام بالرغم من أنه ظل بعيداً عن أي صدام على المستوى السياسي.

وبسبب قوميته المفرطة هذه، نبّه طباطبائي لكون أنّ بعض الأسماء التي تنتمي لإيران حاولت بعض الدول أن تنسبها لنفسها، كابن سينا الذي نفى أن يكون أوزبكيًا، والرومي والفارابي اللذان نفيا أن يكونا تركيين، عازًيا ذلك لكون حدود إيران ليست ما هي عليه اليوم، بل هي حدود ثقافية تشمل قارّة، بحسب رأيه.

يطلق عليه البعض في إيران لقب “الفيلسوف الإيرانشهري”، أو صاحب نظرية “إيرانشهر”، والترجمة الحرفية لهذا المصطلح هي “إيران المدينة”، ولكنّ تأويل كلمة “شهر” يدلّ على الحكومة أو الدولة من وجهة نظر طباطبائي، فيصبح المعنى القريب له باللغة العربية هو “دولة أو حكومة إيران”.

ويقصد طباطبائي من وراء هذا التعبير ديمومة واستمرار الفكر الإيراني بعد العصر الإسلامي، أي أنّ إيران التي كانت قبل الإسلام لم تمت بعد مجيئه، أو أنّ الإسلام عند دخوله لإيران لم يلغي فكرها وثقافتها القديمة. قد يحتاج هذا المفهوم لكثير من الشرح، لأنه يمثل مشروعًا فكريًا كبيرًا بدأه الطبطبائي منفردًا في بلاده.

وإذا عدنا قليلًا في التاريخ، نجد أنّ الملك رضا شاه بهلوي هو أوّل من أطلق اسم “إيران” رسميًا على بلاد فارس عام 1935، ولكن بعد إنتصار الثورة الاسلامية أصبح اسم “الجمهورية الإسلامية” هو التعبير الأعمّ، بينما يكاد اسم “إيران” يختفي.

ومن الاعتقادات السائدة في هذا الإطار، وهو ما أخد به طبطبائي نفسه، هو أنّ إيران تشمل أفغانستان، طاجيكستان، أوزبكستان، أذربيجان، أجزاءً من الهند، وأيضا أجزاءً من العراق.

وبالعودة إلى آرائه القومية، رفض طباطبائي فكرة تعريب اللغة الفارسية، فهو يشدد على أنّ إيران دولة تمتلك تاريخًا مميزًا، وثقافة ولغة مميّزتين، وقال: “هذه اللغة هي أهم وثيقة لاستمرارية تاريخ وثقافة إيران. إيران هي الدولة الوحيدة المهمة التي حافظ شعبها على اللغة الفارسية، على عكس العديد من البلدان الأخرى التي أصبحت عربية”.

ومن الجدير بالذكر إنه قبل سنوات، حصل طبطبائي على جائزة الفارابي الدولية، وقد سلّمها له الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، وهو ما مثّل اعترافًا رسميًا متأخرًا من قبل طهران بفضله، وذلك بعدما منحته فرنسا وسام النخيل الأكاديمي، كما قلّدته جامعة كامبريدج البريطانية الميدالية الفضية للبحوث السياسية.

كذلك، فإن لجواد طبطبائي ابنة هي آريان طبطبائي تعيش في الولايات المتحدة، وهي من النخب الإيرانية الأميركية التي صنعت لها مكانا في دوائر القرار في واشنطن. واختيرت آريان مع انتخاب الرئيس الأميركي جو بايدن عضوا في فريق روبرت مالي التفاوضي مع إيران، لكنها استقالت لاحقا احتجاجا على أسلوب مالي التفاوضي المتساهل مع طهران، وذكرت في تحديث لها على شبكات التواصل انها اصبحت مستشارة في وزارة الدفاع الأميركية، البنتاغون.

ومن ضمن الأعمال التي نشرها سيد جواد طباطبائي، كتب “تاريخ الفكر السياسي في إيران”، “ابن خلدون وعلم الاجتماع”، “الطوسي خطاب في الثقافة الإيرانية”، “مفهوم الولاية المطلقة” وغيرها من الأعمال التي تستحق الترجمة إلى اللغة العربية.

المعلومات والآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي “جاده إيران” وإنما تعبّر عن رأي كاتبها

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: