الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة22 فبراير 2023 09:31
للمشاركة:

سعدي الشيرازي نبيًا

لا شك أن شخصية الشاعر الكبير سعدي الشيرازي الملقب بشاعر الإنسانية لا تزال من الشخصيات المثيرة للجدل في الوسط الأدبي الكلاسيكي في إيران، إذ تحيط بهذه الشخصية الحاضرة على الدوام في الذاكرة الإيرانية هالة من القداسة والتعظيم، ربما لم ينلها شاعر قبله ولا بعده.

منزلة الشيرازاي تلك جعلت الباحث الإيراني علي الدشتي يصفه ب “إله الأدب الفارسي”، وهي منزلة لم ينلها أي شاعر من شعراء الأمم، حيث اعتبر الدشتي أن شعره عند الفرس بمنزلة القرآن، وربما هذا هو ما يستوقفنا دوما للتعرف على هذه الشخصية والبحث في آثارها، وأهميتها في أدب وثقافة إيران ماضيا وحاضرا.

لقد اكتسب سعدي الشيرازي منزلة رفيعة بين أدباء الفرس وشعرائهم، وتبوأ مكانة سامية على مر العصور ليس في إيران فحسب، بل في جميع الأمصار، كان اسمه أشهر من نار على علم سواء في الماضي البعيد أو في الحاضر، حتى صار مشهور عنه بلقب شاعر الإنسانية، كما طافت أشعاره معظم لغات العالم، حيث ساعدها على ذلك امتلائها بالحكمة والموعظة والمثل الإنسانية التي ظلت خالدة عبر الأجيال.

على الرغم من هذه المناقب، إلا أن ثمة غموض يلف شخصية سعدي الشيرازي، الأمر الذي أوجد الكثير من التحديات أمام الباحثين ودفعهم نحو السعي لفك رموز هذا الغموض الذي يشمل حياته وتفاصيلها وأحوال عصره، إلى جانب آثاره وموضوعاته. هذا السعي قاد بدوره لخلاف في مواطن عديدة عند الباحثين الايرانيين أو العرب أو المستشرقين الأجانب، أهمها حول اسمه وتاريخ ولادته ووفاته وسبب وكنيته.

في هذا السياق، يمكن البدء من عبد العظيم الگركاني الذي يعد أحد أهم من تعرض لدراسة سعدي الشيرازي و آثاره قديما، حيث يذهب إلى القول في مقدمته لكتاب سعدي “الگلستان” بإن حياته مشكوك فيها وأنه لا يمكن أن نعلم صحة ما وصلنا عن حياة سعدي ونشأته وأسفاره ومعاصريه. ويؤيد ذلك المستشرق آربري الذي يقول إن الأخبار التي وصلتنا عن سعدي الشيرازي وللأسف الشديد ضعيفة الثقة، ولا نمتلك ما يسند ويثبت صحة تلك عن غيرها.

الجدير ذكره، أن سعدي الشيرازي واسمه مصلح الدين عاش في القرن السابع الهجري ومضى على وفاته أكثر من ألف سنة، حيث عمر سعدي حتى الأربعة والخمسين عاما، كما يُشار إلى أن العصر الذي شهده كان مضطربا وتتخلله حالة من الانحطاط والهمجية، سيما فيما يتعلق بكوارث المغول وحروبهم التي أكلت الأخضر واليابس بدءا من خوارزم حتى العراق.

ولأنه ولد في شيراز وقضى فيها بعض طفولتها، لم يكن حبيسا فيها فقد هام في أسفاره إلى الأناضول والشام ومصر والعراق، وأكمل دراسته في بغداد، وتعلم عند مشايخها، وشد رحاله إلى مكة كما زار بيت المقدس، ووصل إلى شمال افريقيا، ثم عاد إبى مسقط رأسه في شيراز حتى وفاته عام ستمئة وتسعين أو أربع وتسعين هجرية.

ولتوضيح حالة العصر الذي عاش فيه سعدي، يمكن الإشارة إلى أنه قبل سبعة عقود من الآن، ألف محمد موسى هنداوي كتابه الضخم باللغة العربية (سعدي الشيرازي شاعر الإنسانية) وكتب فيه يقول : “… مجتمع مريض تناوبته أمراض مختلفة، فكان الشاعر أمام هذا المجتمع بمثابة الطبيب، أو بمثابة المصلح الاجتماعي، يرشد هذا المجتمع الذي أخذ يهيم في الحياة الجديدة، … بل كان الشاعر بمثابة رسول أرسلته البيئة الإسلامية لإنقاذها مما أصابها وأصاب المجتمع عامة.”

في التعليق على كلام هنداوي يتضح أن سعدي كان بجدارة نبيا مرسلا ولا أعتقد أن ذلك كان بالمعنى المجازي فحسب، فقد كانت لديه رسالة، وهدف، وكان لديه كتاب، ووحي، ومعجزة (أدبية) ، وليس بينه وبين الأنبياء والمرسلين سوى خيط رفيع يتمثل عندهم بالوحي الألهي، وعنده بالوحي الشعري.

كان إذا ثمة انقلاب مأساوي قد شهده العصر الذي عاش فيه سعدي، انقلاب شل حركة الحياة بجميع مفاصلها وغير ما لا يلزم تغيره من حسن إلى سيء، وأنقلبت الحياة وجها على عقب، فالحياة لم تكن من الرقة والدعة ما يجعل المرء ساكنا حيالها، بل العكس كانت تستوجب الصراخ والثورة، وهذا ما يمكن لمسه في العديد من المواضع التي تناولها في شعره الثري.

ترك سعدي الشيرازي شعرا مكتوبا بإسلوب جزل وواضح متخم بالقيم الاخلاقية، والأدب الرفيع، ونظم موسيقية فريدة، وعروض شعرية أبهرت شعراء زمانه، حتى أثرت في القصيدة العربية. وهو يقول بلسانه في إحدى المواطن “تسيدت الدنيا بسيف البلاغة يا سعدي”

تربى سعدي الشيرازي تربية دينية بحتة، وعاش في جو من التصوف والروحانية الخالصة، حيث فاضت روحه بتأثير أحد أكبر فلاسفة بلاد فارس وكبير متصوفتها شهاب الدين السهرودي، الأمر الذي أوجد قدر لا يستهان به من الحكمة والفلسفة والمعرفة في أشعاره، حيث عبر عن ذلك بلسانه بلسانه في كتابه الشهير البوستان :”زهر خرمنى خوشه يافتم” أي “وحصلت من كل بيدر على سنبلة”.

براعة سعدي وعبقريته تجلت في وضع كتابيه الشهيرين البوستان والگلستان، وظهرت فيهما معجزته في نظم ما يسمى بالمثنويات التعليمية، والتي كانت مشابهة إلى حد ما مع ما نظمه من قبله الشاعر الفارسي الكبير سنائي الغزنوي، فسنائي اشتهر بمؤلفه “حديقة الحقائق” الذي تظمن مواضيع اجتماعية تعليمية، وقد سلك سعدي مذهبه إلا أنه غير في الاسم والأسلوب وتناول تلك المواضيع بطريقته الخاصة.

افرد سعظي في كتابه البوستان أبوابا لكل جانب من المواضيع الآتية: العدل، الإحسان، العشق، التواضع، الرضا، القناعة، التربية، الشكر، التوبة، المناجاة. وهو ما يحتاجه الفرد لرسم طريق صالح للحياة بعيد كل البعد عن الشرور والجهل والظلم والكره والحسد والتكبر والموبقات. وهو أيضا بمثابة هداية للنفس البشرية.
والظاهر أن الشاعر كان ينوي وصع رسالته لصالح خدمة الإنسان في كل زمان ومكان، وهو بعينه ما جعله خالدا وصالحا لكل زمان فقراءته نفسها في أي عصر لا تختلف، ولا تنسخ، ولا يساء فهمها، ودراسة شعره تنتج في كل مرة ما هو جديد وطازج.

أسس سعدي الشيرازي في هذين الكتابين مدينة فاضلة وأحسن في بنائها، مما جعل الفرس حتى يومنا هذا يدرجون منهما قطع مشروحة في الكتب المدرسية كمقدمة لتعليم الطلبة على الخلق القويم والآداب السمحة. وفي هذا الصدد يقول كارل بروكلمان في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية) إن “كل فارسي حتى يومنا هذا ينظر إلى الكتاب (الگلستان) كأفضل تعبير عن مظاهر الخلق القومي، ومن هنا فهو أقرب الكتب إلى قلبه.” كما يقول أيضا ديفيد روزينبوم عن الگلستان إن “القارئ قد ينسى أنه يتعلم شيئا، وكأن دواء شعر سعدي مغموس في العسل.”

من إيران إذن البلد الذي لا أكل عن وصفه ب”البلد القارة” انطلق صوت سعدي الشيرازي نبيا، مخاطبا البشرية كلها بخطاب الإنسانية ليطوف حول العالم شرقا وغربا، حيث حطت نسخ عديدة من كلياته (مجموع آثاره) في مكتبات مختلفة في الهند، باكستان، أفغانستان، تركيا، العراق، أوروبا، بريطانيا، وفرنسا وألمانيا وغيرها، و ترجمت إلى معظم لغات العالم مرات عديدة، واحتفظت المكتبات العالمية بنسخ ومخطوطات نادرة من شعره، وتعرضت للبحث والدراسة والتمحيص في كبرى جامعات أوربا، ولا تزال مواضيعه مدار البحث في معظم جامعات العالم. حيث يقول شاعر أميركا الكبير رالف ايمرسون: إن “سعدي (باعث البهجة في نفوس الرجال) يتحدث بلسان جميع الأمم، وكشأن، هومر وشكسبير وثيربانتس وميشيل دي مونتين، ومونتينيو، فإن كتاباته تصلح لجميع العصور”.

ويصف الشاعر الفارسي المعاصر مجد همگر شعر سعدي كالكعبة التي يؤمها كل الناس، و أن ما يصدر عنه من حكمة وفلسفة إنما هو فيض كزمزم.
كذلك، وصفه المدين له وقرينه بالمكانة الشاعر الفارسي الكبير الآخر حافظ الشيرازي ب “استاذ سخن” أي استاذ الكلام في كل فنون الشعر والأدب.
في كتاب “تذكرة الشعراء” يقول دولتشاه -شعريا- إن أنبياء الشعر الفارسي ثلاثة كل منهم أستاذ في ناحية وهم الفردوسي أستاذ في الشعر الملحمي (القصص) ، والانوري أستاذ في القصائد، وسعدي وهو أستاذ في الغزل.
أما علي الدشتي، فأورد في كتابه “سايه” كلاما مدهشا عن سعدي الشيرازي حيث قال:” سعدي رب الفصاحة والبلاغة، ورب الأدب الفارسي إذا ادعينا النبوة، وكلياته بمنزلة القرآن في الفارسية.”

من المؤكد أن سعدي الشيرازي تأثر كثيرا باللغة العربية وآدابها وخاصة بالشعر العباسي، كما تأثر بالقرآن الكريم، والحديث النبوي واقتبس عنهما عدد كبير من التعابير والمفاهيم الإسلامية، ورغم كونه فارسي كان يتقن اللغة العربية، ويحسن النظم فيها فقد بث في كلياته قصائد ومقطوعات عربية جمعها الباحثون في ديوان خاص.

قبل ما يقارب السبعة قرون أُقيم فوق قبر سعدي في شيراز بناء ً ضخما أصبح فيما بعد مزارا يقصده العديد من الناس، ويزوره العوام من الناس باعتباره ضريحا لشيخ صالح، كما يزوره الأدباء في إيران باعتباره نبيا للشعر والأدب الفارسي.

نقتبس القليل من أشعار سعدي الشيرازي بوصفه نبيا:

▪️ إنه يدعو الى وحدانية الله بقول صريح :
وحذار أن تتابع هوى نفسك
فليس في طريق الله أشد للإنسان إهلاكا من هذه الغول الصحراوية

▪️ يحث المؤمنين على الأعمال الصالحة التي ستفيدهم في الآخرة:
دارك ملأتها بالقمح
ولم ترسل حبة شعير الى قبرك

▪️ يفضل البذخ بالإحسان على فريضة الصيام:
والذي يفطر في الصيام ويعم الناس فضله
خير من صائم الدهر والدنيا معبوده

▪️ يفضل الإيثار على الصلاة وقيام الليل:
و السابقون من الناس سبقوا بالإيثار
وليس في إحياء الليل وقلوبهم كالأحجار

▪️ والإحسان للغرباء لا بد منه، كذلك لمن اساء إليك:
وأحسن أيها الكريم إلى من أساءك
فالكلب يرعاك حين تناوله من خبزك

▪️ وفي وجوب الثورة على الظالم يقول:
تخلص من الظالمين واجتز منهم الرؤوس
فإن الظلم على الظالم عدل وقسطاس

▪️ وعاشق الجمال عاشق أحمق لانه إنما يهوى نفسه:
واذا كانت عينك تنظر حسن الحبيب
فأنت في هوى نفسك لا في هوى الحبيب

▪️ يدعونا سعدي إلى الوحدة والتلاحم فيقول:
آدميون نحن ولنفس الأصل ننــــتمي
فكيف نهنأ بالعيش والغير يألمُ
ما استحق الحياة من يرى أخاه يشقى
وهو بالملذات والخيرات ينــعمُ

▪️ وفي إشكالية من يكتنز المال وتحصيل العلم دون فائدة:
اثنان جهدا بلا جدوى وسعيا بلا فائدة؛
الأول من جمع مالاً وما أكل، والثاني من تعلّم العلم وما عمل.

يقول سعدي في إحدى المواطن من كلياته وهو أشبه بالختام لمواعظه:
فيا سعدي مع أنك بليغ الكلام وتقول المصلحة
إلا أن الأمور تتم بالعمل وليس بالكلام

ملاحظة:
الاقتباسات الشعرية هي من ترجمة محمد موسى هنداوي في كتابه المذكور، بإستثناء أول بيتين والبيت الأخير فهما من ترجمة الدكتور علاء الدين منصور “مواعظ سعدي” جمعها محمد علي فروغي.

المعلومات والآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي “جاده إيران” وإنما تعبّر عن رأي كاتبها

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: