الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة4 فبراير 2023 17:58
للمشاركة:

إيران واللعب خارج الحدود.. المسألة وجودية

يبدو العالم صغيرًا، عندما يُرى وفق ضرورة وجود إيران كلاعب أساسي في أزماته المترامية. الجغرافيا السياسية في عالم ما بعد الحرب الباردة، على الأقل، تحكم بذلك في عالمٍ تتشابك مصالح أهله بخيوط متينة. وبالعكس، يبدو العالم كبيرًا جدًا على إيران، عندما يُرى بالعين التاريخية التي تعطي لطهران ما كان لها في ذروة قوة بلاد فارس. إنّها الهواجس التاريخية ونشوة الذاكرة الوطنية التي تصارع الواقعية، فتغلب حينًا وتُغلبُ أحيانًا.

بمعزلٍ عن “الشعاراتية” الزائدة في خطاب الجمهورية الإسلامية، تلعب إيران أدوارها الخارجية بواقعية التوازن بين مصالح مشروعها السياسي والوقائع القائمة. التراكم البطيء والمكثف هو على الأرجح السمة الأساسية للأداء الخارجي الإيراني. منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي كانت عوامل التقدم والتراجع موجودة في المشروع الإيراني نفسه. فقد كان شعار “لا شرقية ولا غربية” بمثابة العازل الطبيعي بين الجمهورية الإسلامية والصراع الدولي، لكنّه ما لبث أن انسلخ رويدًا رويدًا بحكم الوقائع، وأيضًا، بحكم التغيرات التي هزت العالم بعد نهاية المنظومة الشرقية.

بات العالم غربيًّا بحكم القطب الأميركي الأوحد، وهنا بدأ الصعود الإيراني بالبروز متّكلًا على استقطابٍ إسلامي جارف صنعته الهوية الأخيرة للثورة، وانجذاب معظم إسلاميي العالم لها نتيجة اضطهادهم في بلادهم، ونتيجة الوضوح الإيراني منذ البداية في معاداة إسرائيل ودعم القضية الفلسطينية. إلا أن هذا الانجذاب الإسلامي نحو إيران، بدأ يتقلّص رويدًا رويدًا إلى أن بدأت الأزمة السورية، وعاد الانقسام حول دور الجمهورية الإسلامية التي دعمت نظام بشار الأسد، في حرب تحوّلت إلى صراع طائفي توسّع ليشمل المنطقة كلّها. إضافة إلى ذلك، شكّل الدور الإيراني في العراق محط نفور لدى بعض الجهات الإسلامية، ما صعّب المهمة أكثر على طهران.

لكن قبل تلك الأحداث، كان دور إيران الإسلامي نقطة انطلاق في الدور الخارجي الإقليمي، حيث ترى طهران أن تدخلها أمر مطلوب من باب الهجوم لتحقيق شعاراتها، ومن باب الدفاع لتأمين خطوط رادعة للهجمات المقبلة عليها بفعل القلق الغربي والإسرائيلي من هوية نظامها ومشروعه، كما رأته واشنطن وحلفاؤها العرب وغير العرب.

وقبل أن تُعيد طهران مشروعها النووي إلى الضوء، كان أثرها الدولي ببعده السياسي والأمني والعسكري مرهونًا بدرجة نجاح أدائها الاقليمي. ولا جدال هنا، على الأرجح، في أن طهران تمكّنت من بناء منظومة إقليمية حليفة من الأحزاب والقوى، وأدّى ذلك إلى تحوّلات إقليمية يبرز منها: دعم المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، تحرير الجنوب اللبناني، دعم فصائل عراقية ضد الاحتلال الأميركية، وتعزيز دور حليفها حزب الله بعد صموده العسكري مقابل حرب إسرائيلية كبيرة في تموز/ يوليو 2006، إضافة إلى دعم التحالف مع سوريا، وهو ما برز بوضوح لاحقًا في الحرب السورية.

لكن على المقلب الإقليمي الآخر، كانت طهران حذرة في أدوارها؛ فلا عداوة واضحة تمنحها الراحة في الأداء، ولا حلف يمنحها الطمأنينة الإقليمية التي تريدها. في آسيا الوسطى حيث يدغدغ التاريخ العقل الإيراني وتوقظه الوقائع، تراوح الحضور الإيراني بين دعم أذربيجان ضد أرمينيا، ثم دعم الأخيرة ضد الأولى. فالممر الوحيد إلى أوروبا عبر يريفان كان يجب الحفاظ عليه في حمأة الحصار الغربي على طهران.

وكذلك توازن العلاقات مع باكو، رغم عناصر التشويش الكبير على العلاقات كالنفوذ التركي الواسع هناك، أو العلاقات القوية بين أذربيجان وإسرائيل، وكلا الأمرين ما زالا يقلقان طهران جدًا. متوازنة وبلا حروب مباشرة كانت صيغة تعامل إيران في هذه البقعة من إقليمها، خلافًا لتعاملها في العراق مثلًا بعد الغزو الأميركي. خلعت إيران قفازاتها وأدخلت نفوذها في بغداد على نحو لا يُخفى على أحد. تفاوض واشنطن أحيانًا وتقاتلها أحيانًا أخرى. وهكذا في لبنان واليمن أيضًا، حيث تدرك طهران إخلاص حلفائها لها وتتفهم مصالحهم الداخلية في بلدانهم حيث تمارس المرونة الممكنة.

كان توقيع الاتفاق النووي الإيراني وعودة روسيا إلى الساحة الدولية وصعود الصين اقتصاديًا وسياسيًا، عوامل أساسية في تعزيز الدور الإيراني وانتقاله إلى ما هو أبعد من الإقليمي. لم يكن ذلك محصورًا بالتلويح الإيراني الدائم بالسطوة على مناطق بحرية واسعة يمر منها نفط العالم، كمضيق هرمز أو الخليج أو بحر عمان، بل تعدّى ذلك إلى أميركا اللاتينية والتشبيك الاقتصادي، وربما غير الاقتصادي أيضًا، مع الأنظمة السياسية المعادية لواشنطن.

فالمعايير الجديدة هنا كما تراها طهران على الأرجح، تقسم العالم إلى نصفين، الأول مع الولايات المتحدة والثاني ضدها، من دون أن يبدّد ذلك هوامش مصالح الدول، وهو ما راعته واشنطن لفترة لا بأس بها، قبل أن يصل العالم إلى استقطابه الأخطر مع اندلاع الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا. في تلك اللحظة، انكسرت محاولات العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني بعد انسحاب واشنطن منه على يد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

بات العالم مقسومًا، اصطلاحيًا، بين شرق وغرب. إيران المنهكة بالعقوبات الأميركية وأزمتها الاقتصادية العميقة، كانت الأكثر ارتياحًا في حسم خياراتها. فهي اليوم تنادي بالتحول نحو الشرق، أي التحالف مع كل الدول الصاعدة خلافًا للهيمنة الأميركية على هذا العالم. كما وجدت موقعها في اتفاقية إستراتيجية مع الصين، إضافة لحلف يتكرّس عسكريًا مع روسيا، حيث مدّتها بالمسيّرات الانتحارية التي رُصد تأثيرها البالغ في مجريات المعركة في كييف ومحيطها.

كل ذلك يعني انتقال إيران، وإن بتوقيت لم تحدده، إلى ساحة اللعب دوليًا مع ما يعنيه ذلك من مكاسب وخسائر. وكأيٍّ من الدول الفاعلة، تدرك طهران، كما أدرك جيرانها الخليجيون كالسعودية والإمارات وقطر على وجه الخصوص، أن الغد مرهون بالأداء الدولي اليوم وأكثر من أي وقت مضى. وهنا، يبدو واضحًا أن طهران حاسمة أكثر من جيرانها، في انتمائها لمعسكر يتشكل ضمن مواجهة عالمية بدأت مع انطلاق الدبابات الروسية نحو الشرق الأوكراني.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: