الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة28 يناير 2023 14:44
للمشاركة:

إيران والعقوبات… الحرب المستمرة

يتكرر المشهد في موسكو. محال مقفلة ليلا نهارا بعدما كانت تعج بالزبائن قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا. الحديث هنا عن فروع العلامات التجارية الغربية الكبرى، التي تحاول المتاجر الكبرى الروسية تقديم بدائل لمنتجاتها في مسعىً لتغطية الفراغ الذي خلفته مغادرة عشرات الأصناف العالمية بسبب العقوبات الغربية.

المصارف وشركات الحوالات والبطاقات الائتمانية باتت تنشط في دائرة مغلقة، أو ما يمكن وصفه بالشبكة المصرفية الداخلية، في مشهد مشابه حد التطابق مع ما كان يحدث في إيران خلال السنوات الماضية. إنها حرب العقوبات التي تهدف بالدرجة الأولى لزرع الألم بأساليب مختلفة على مستويات متعددة كي يبدأ الصراخ من الداخل.

وعند الحديث عن العقوبات، يعود شبح رئيس الوزراء الإيراني المخلوع محمد مصدق للظهور من جديد، تماما كما في كل علاقة مشتبكة بين إيران والغرب على مدى سبعة عقود مضت. عقب تأميم مصدّق للنفط عام 1951، فرضت بريطانيا أولى العقوبات على إيران ومنعتها من تصدير نفطها بهدف الضغط على الحكومة والشعب ومن خلفهما رئيس الوزراء. ورغم تطبيق لندن للعقوبات بشكل حديدي إلا أن الحصار لم يعط ثماراً ميدانية في الشارع ضد مصدق، وهو ما دفع لندن لإقناع الولايات المتحدة بإطاحة صاحب أول تجربة ديموقراطية في تاريخ إيران، وهو ما تتفق المصادر البريطانية والأميركية على توصيفه بالنجاح القصير الأمد والفشل الإستراتيجي، إذ أن النتيجة البعيدة الأمد لإطاحة مصدق كانت الثورة في العام 1979، وبروز حالة إيرانية معادية للغرب بشراسة وتسلمها الحكم للمرة الأولى خلال التاريخ الحديث.


كان لهذا التحول على الساحة الإيرانية أثره على أدوات التفكير الأميركية التي راهنت بداية على سقوط تحالف الإسلاميين مع الأطراف اليسارية والقومية والوطنية الإيرانية، ولكن من سقط كان الأطراف الأقل عداء للولايات المتحدة. الخطوة الثانية، المتلازمة مع الأولى جاءت بعد اقتحام أنصار النظام الإسلامي في طهران للسفارة الأميركية، وأخذهم عشرات الدبلوماسيين رهائن لديهم، كانت اللجوء للعقوبات. ومنذ ذلك اليوم وال”تحريمات” كما تسمى في إيران الأداة المفضلة لدى واشنطن للتعامل مع طهران، رغم أنها فشلت حتى اللحظة في إعطاء النتائج الكاملة التي ارادتها أميركا منها.

ما نجحت به العقوبات هو إيقاع أقسى أنواع الألم على الشعب الإيراني، قطعه عن العالم، منع الدواء عنه، تعريضه لخطر ركوب طائرات بدون قطع غيار، لكنها بحكم ظروف إيران الطبيعية فشلت في تجويعه. كذلك الأمر، هي قدّمت للنظام في طهران ورقة لتثبيت سرديته حول الغرب وعدائه لإيران وإصراره على إخضاعها بشتى الأساليب. هذه السردية ازدهرت وأخذت بعدا أكبر بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018 وفرض عقوبات جديدة، وإعادة فرض عقوبات قديمة على طهران. في تلك اللحظة المحورية أدت الإجراءات الأميركية إلى فتح نقاش جديد على مستوى القيادة في إيران حول أدوات المواجهة، بما في ذلك عدم جدوى التواصل مع الأميركيين على المدى الطويل، لأنهم لن يوفوا بوعدهم مهما كانت الضمانات، ولأن “الضمانات الذاتية” كما يصفها أمين مجلس الأمن القومي علي شمخاني، أقدر على ردع الخصوم عن المزيد من المغامرات.

ما حصدته إيران نتيجة العقوبات على مدى السنوات الماضية، كان إعادة تفعيل خطوط الإنتاج المحلية وإطلاق مسارات تطوير تكنولوجية، لكنها فشلت في تشكيل اقتصاد ببنية تسمح له بمجابهة التحديات الكبرى، ولا تمكنت من إطلاق رؤية قائدها الأعلى المعنونة بالاقتصاد المقاوم بشكل يمكن أن يصبح نموذجا يحتذى لدى دول تتشارك مع إيران ظروف العقوبات الدولية والأميركية، أو مصنفة على لائحة الدول المارقة. لكن الولايات المتحدة في المقابل استنفذت كل أوراق ضغطها تقريبا، وهي ترقب إيران التي تعيد النظر بصمت في عقيدتها النووية، وهو ما قد يكون أخطر نتيجة من نتائج العقوبات وسقوط الاتفاق النووي الأخير.

خلال الأسابيع والأشهر الماضية تردد عدد من الدبلوماسيين والخبراء الاقتصاديين الروس على طهران للاستفادة من التجربة، وتحديدا النظر في إمكانية التعاون بشكل ممنهج بين البلدين لمواجهة عواصف العقوبات الأميركية والدولية. ما حققته أميركا مجددا أكبر بكثير من قدرة الإيرانيين والروس على تحقيقه بدون عامل خارجي. وكل ما أضيف إلى لائحة العقوبات طرف جديد، أصبح أقرب إلى الانضمام إلى تجمع الدول التي تغضب أميركا عليها، وهؤلاء فيما بينهم يتدارسون خيارات قلب الطاولة والتحول إلى سوق عالمية موازية، والأهم، محاربة أميركا بسلاحها، مع ما يعنيه ذلك إقليميا ودوليا مهما كانت التداعيات.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: