اجتماعية واقتصادية ومعيشية.. العقوبات الغربية وتأثيرها على الشعب الإيراني
عادة ما تعتبر السلطات الإيرانية أنّ العقوبات هي السبب الرئيسي لمشاكل البلاد. لا شك من حجم الضرر الذي خلّفته هذه الإجراءات، لكن دون إغفال دور القرارات الاقتصادية المتخذة من قبل المسؤولين في الجمهورية الإسلامية. فلا يمكن أن يُعزى كل إنتاج إيران المنخفض مقارنة بقدراتها، والتضخم المرتفع والتقلّبات الكبيرة في النمو بالبلاد إلى العقوبات؛ لأن هذه القضايا لها جذور داخلية بسبب فترات طويلة من التلاعب بالأسعار، الفساد، المحسوبيات، والنظام المصرفي الضعيف.
الغرض الغربي من العقوبات الشديدة على إيران هو الضغط على قادة البلاد من خلال جعل الحياة صعبة على المواطنين. ورغم نجاحها في خلق أزمة اقتصادية والإضرار برفاهية المواطنين، إلا أنها لم تؤثر بالشكل المطلوب بالنظام الإيراني.
كان تأثير العقوبات على الاقتصاد الإيراني ذي شقين: الأول، الحد من دخل الحكومة من صادرات النفط، والثاني، قطع التجارة مع العالم الخارجي. أدى الانخفاض في عائدات الصادرات إلى انخفاض قيمة العملة وزيادة التضخم وإتلاف ميزانيات الأسر. يؤدي انخفاض الإيرادات الحكومية إلى انكماش اقتصادي، مما يضر بالاستهلاك والتوظيف.
تاريخ العقوبات
منذ انتصار الثورة الإسلامية، تم فرض عقوبات مختلفة على إيران. وتتعلق الجولة الأولى من هذه العقوبات بالفترة ما بين 1978 و1980، والتي بموجبها، بالإضافة إلى مصادرة جميع أصول الحكومة الإيرانية في البنوك الأميركية، تم حظر تصدير المواد الغذائية والأدوية إلى إيران، وتم منع الأميركيين من القيام بأي معاملات مالية مع الإيرانيين.
تم تطبيق الجولة الثانية من العقوبات بقرار من الكونغرس الأميركي، وبالتزامن مع بداية الحرب مع العراق، والتي تم خلالها حظر تصدير المعدّات العسكرية، وتصدير البضائع الأميركية، وصفقات تطوير صناعة النفط الإيرانية، والاستثمارات المتبادلة بين طهران وواشنطن.
بدأت الفترة الثالثة للعقوبات عام 1996، وكان إقرار قانون “عقوبات إيران وليبيا”، متضمّنًا أسماء البنوك الإيرانية وعددًا من الشركات التابعة للحرس الثوري الإيراني في قائمة العقوبات، أحد إجراءات هذه الفترة من العقوبات.
الفترة الرابعة بدأت عام 2010. كان الغرض منها إبطاء نمو الطاقة النووية وحظر صادرات النفط الإيرانية. إنّ فرض عقوبات على البنك المركزي وحظر أكثر صرامة لاستيراد السلع الأساسية هما من أهم العقوبات في هذه الفترة.
لكن الآثار الأكثر تدميرًا للعقوبات على الاقتصاد الإيراني حدثت خلال رئاسة دونالد ترامب، وكان من آثارها انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، حيث تقلّص الاقتصاد الإيراني بنسبة 4.99٪ من عام 2017 إلى نهاية عام 2020.
ففي عام 2016، بعد توقيع الاتفاقية النووية، شهدت إيران نموًا اقتصاديًا قويًا بنسبة 12.5٪. ومع ذلك، كان هذا النمو الاقتصادي قصير المدى. وخلال هذه الفترة من العقوبات، انخفضت الصادرات والواردات بشكل كبير. بالإضافة إلى النفط، تم فرض عقوبات أيضًا على المعادن الصناعية الإيرانية، والتي تُعدُّ مصدرًا كبيرًا لعائدات الصادرات الإيرانية.
هناك مشكلة اقتصادية أخرى في إيران تتمثّل بعدم الموافقة على مجموعة العمل المالي (FATF). ولهذا السبب، تم قطع جميع اتصالات إيران تقريبًا مع الشبكات المصرفية العالمية، ويتم تحويل الأموال على شكل حقائب أو من خلال التبادلات، ويتم تنفيذ التجارة الإيرانية على شكل مقاصة، أي سلعة مقابل سلعة.
نظرًا لكون إيران مدرجة في القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي، لا تزال غير قادرة على إجراء مبادلاتها المالية مع الدول التي لديها اتفاقيات نقدية متعددة الأطراف معها أو استيراد مقابل التصدير مع هذه الدول. وفي هذا السياق، يجب الإشارة إلى أنّ العقوبات ساهمت بشكل كبير بالوصول إلى هذا الوضع السيئ، كما أنّ عدم الموافقة على الإجراءات العملية التي تتوقعها مجموعة العمل المالي الخاصة لمكافحة غسل الأموال من قبل إيران، شدد هذه الضغوط.
أثر العقوبات على سعر الصرف
تؤثر العقوبات بشكل غير مباشر على سعر الصرف وعلى التضخم في البلاد، إضافة لنمو الإنتاج من خلال تخفيض قيمة الريال، وهو أمر مهم أيضًا من الناحية الإحصائية.
من وجهة النظر الاجتماعية والديموغرافية، كان للعقوبات أيضًا تأثير سلبي على التعليم الثانوي وانخفاض عدد المدارس والمعلّمين بشكل كبير استجابة لموجة العقوبات الجديدة.
وفي هذا الإطار، قال أستاذ الاقتصاد رسول بير هادي إنّ العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة ستؤدي إلى تخفيف العقوبات وليس الإلغاء التام لها، ونتيجة لذلك ستزيد الصادرات النفطية وليس الصادرات غير النفطية، أي لن تحصل زيادة في القدرة التصديرية للبلاد، لكن بالطبع ستزداد عائدات إيران من النقد الأجنبي.
وفي تصريح لوكالة “إسنا”، أضاف بير هادي أنّه بحال العودة إلى الاتفاق النووي فإنّ سعر الدولار سينخفض لفترة قصيرة، مشيرًا إلى أنّ تطبيق العقوبات بشكل عام هو أداة للتحكم في السلوك السياسي والاقتصادي لبلد ما.
وتابع: “ما شهدناه هو أنّ العقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي، وكذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشكل خاص، تضغط بشكل مباشر على الناس وعلى الحكومة بشكل غير مباشر”.
العقوبات والهجرة
على الرغم من أنّ قضية الهجرة الإيرانية كانت مثار جدل على مدار نصف القرن الماضي، إلا أنها أصبحت أكثر بروزًا في العقدين الماضيين. ففي هذه الأيام، ظهرت هذه القضية مرة أخرى في الأخبار وتم الإعلان رسميًا عن أن حجم مبيعات المنازل في مناطق من طهران قد شهد نموًا غير منطقي.
هجرة الكادر الطبي خلال حقبة كورونا، وكمية هجرة الطلاب وأيضًا جهود الحصول على تأشيرة الشركات الناشئة في السنوات القليلة الماضية، جزء آخر من أخبار مسلسل رغبة الإيرانيين في ترك البلاد.
في غضون ذلك، وفي ظل تكرار مثل هذه القضية، فإنّ الفضاء مفتوح للشائعات والأخبار غير الموثقة، والرأي العام كان أقل تعرّضًا لبيانات الهجرة الموثقة. تشير أحدث بيانات “مرصد الهجرة الإيراني” إلى وجود 29 ألف إيراني في الطاقم الطبي الأميركي. وتشير هذه المعلومات أيضًا إلى أنّ الإيرانيين يحتلّون المرتبة 24 لناحية المهاجرين النشطين في القطاع الصحي الأميركي.
وفي هذا السياق، قال مدير المرصد بهرام صلواتي: “كل عام يهاجر 65 ألف شخص من إيران، ويُعتبر أسلوب الحكم، الملكية، عدم الاستقرار الاقتصادي، ظروف الحصار على إيران، تقلّب أسعار العملات والتضخم من بين العوامل المهمة التي تعزز الهجرة، وذلك وفق ما أشار إليه أكثر من 8000 إيراني شاركوا في استطلاعات الرأي للتحقيق في الرغبة والقرار بالهجرة”.
يُقدَّرُ عدد الإيرانيين (المولودين في إيران) في 20 دولة يتواجد فيهم أكبر عدد من المهاجرين الإيرانيين في العالم بنحو مليوني شخص. كانت الولايات المتحدة، كندا، ألمانيا، تركيا وبريطانيا من أهم دول المقصد للمهاجرين الإيرانيين. في السنوات من 2010 إلى 2021، تم إصدار ما معدله 86000 تأشيرة أو تصريح إقامة غير سياحية للإيرانيين في أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا وتركيا ودول أخرى في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
زاد عدد الطلاب الإيرانيين في الخارج خلال العقدين الماضيين ووصل إلى 66 ألف طالب في عام 2020، بعد أنّ كان 17 ألف طالب في عام 2000. أيضًا، تغير ترتيب إرسال الطلاب الإيرانيين من المركز 26 إلى 17 في العالم بين عامي 2000 و2020. أميركا وألمانيا وتركيا وكندا وإيطاليا هي الوجهات الخمس الرئيسية للطلاب الإيرانيين في العالم.
في عامي 2020 و2021، اشترى الإيرانيون ما مجموعه 17245 بيتًا في تركيا، وكانت حصتهم من جميع المنازل التي اشتراها الأجانب في تركيا في هذين العامين 17.4 و16.9% على التوالي.
في عام 2021، تم تسجيل 936 شركة بمشاركة مواطنين إيرانيين في تركيا، والتي زادت بنسبة 29% مقارنة بالعام السابق. بشكل عام، في عامي 2020 و2021، تم تأسيس ما مجموعه 1661 شركة في تركيا بمشاركة مواطنين إيرانيين، وتم إنفاق ما مجموعه 22190063 دولارًا على تسجيل الشركات.
لم تؤد العقوبات الأميركية ضد إيران إلى زيادة تكلفة المعيشة للشعب الإيراني فحسب، بل جعلت أيضًا من الصعب للغاية الحصول على بعض الأدوية في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، أصبحت هذه المشكلة الآن صعبة للغاية بالنسبة للناس ولا يمكنهم ببساطة العثور على الأدوية الأساسية والأصلية.
أما الأدوية المتوفرة، فباتت تُعرض عمليًا بأسعار مرتفعة جدًا بسبب التضخّم. لذلك، حتى عندما تكون أرفف الصيدليات في إيران ممتلئة، تمنع العقوبات وما ينتج عنها من ارتفاع الأسعار الشعب الإيراني من الوصول بسهولة إلى الأدوية التي يحتاجها.
وفقد كثير من الناس وظائفهم خلال فترة العقوبات في السنوات الأخيرة نتيجة حملة الضغط الأقصى التي شنّها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه حتى إذا وافقت الولايات المتحدة على إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة وألغت العقوبات ضد إيران، فسوف يستغرق الأمر ما لا يقل عن 6 إلى 8 أشهر حتى يتحسن الوضع الاقتصادي لإيران ويتمكن الإيرانيون من العودة إلى الوضع الطبيعي للتجارة الدولية، وكذلك بيع النفط واستعادة مداخيلهم. لهذا السبب بالضبط، يعتقد المراقبون والمحللون بأنه حتى لو تم إبرام اتفاق الآن، فمن غير المرجح أن تظهر آثاره الاقتصادية في إيران في العام المقبل.
ومع ذلك، يمكننا القول إنّ العقوبات كان لها عدد من النتائج الإيجابية غير المقصودة، حيث أدى الحد من صادرات النفط في فترة زمنية طويلة نسبيًا إلى تغييرات هيكلية مهمة في الاقتصاد الإيراني، والتي ارتبطت بزيادة كبيرة في الصادرات غير النفطية، وخاصة المنتجات البتروكيماوية والمنتجات الخفيفة والسلع الزراعية.