الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة7 يناير 2023 17:43
للمشاركة:

إيران وإسرائيل: عندما أطاح الخميني بآمال بيريز 

نداء استغاثة تطلقه طائرة إسرائيلية لبرج المراقبة في مطار مهر آباد في طهران. كان المطلوب هبوطا اضطراريا بسبب عطل تقني. الطائرة كانت عائدة من شرقي آسيا إلى تل أبيب وعلى متنها شخصية إسرائيلية استثنائية. الأهم أن في المطار من كان في انتظارها.

بضعة دقائق بعد الهبوط، ترجل من الطائرة رجل أبيض، قصير القامة، أصلع بشعر أبيض على جانبي رأسه، كان ديفيد بن غوريون، وفي انتظاره في صالون الشخصيات المهمة رئيس الوزراء الإيراني حينذاك علي أميني ومعه قائد الجيش عبد الحسين حجازي ورئيس جهاز السافاك حسن باكرافان.

لم يكن بن غوريون آخر رئيس وزراء يزور إيران، بل تبعه ليفي اشكول وغولدا مائير واسحق رابين ومناحيم بيغن، إلى جانب وزراء قادة جيش ومسؤولي استخبارات ووزراء دفاع كان آخرهم شمعون بيريز في نيسان/ آبريل من العام 1977.

بيريز توّج كل ما سبق على مدى عقد ونصف، حمل معه خلاصة المفاوضات بين حكومة الشاه محمد رضا بهلوي وحكومته حول مشروع Tzur أو “الصخرة” والذي تمثل بتعاون بين الطرفين لبناء منظومة تسليحية قوامها طائرة “آري”، وجيل جديد من صواريخ “أريحا” الباليستية، وصاروخ “الوردة” المضاد للسفن والطويل المدى في مقابل مليار ومئتي مليون دولار من الصادرات النفطية الإيرانية. وبحسب وثيقة مسربة من السفارة الإسرائيلية في طهران بعد الثورة، فإن الإسرائيليين قالوا للإيرانيين إنه بالإمكان تركيب رؤوس نووية على الصواريخ، لكن الأمر لم يبحث رسميا لأنه كان سيثير غضب الأميركيين في حال اكتشفوا أمر الاتفاق.

 لم يطل الأمر حتى بدأت الاضطرابات في طهران، والتي تطورت لاحقا إلى ثورة أطاحت بالشاه وحكمه. انقلبت طهران التي كانت تستضيف سفارة إسرائيلية ومئات الإسرائيليين من صديق إلى عدو، ومشروع الصخرة تكسر على صخرة التغيير الإيراني، لتتحول الفكرة إلى مشروع صاروخي إيراني تخشاه إسرائيل وتحذر منه ليل نهار.

لم تستسلم إسرائيل لفكرة سقوط نظام الشاه الحليف لها، وكان التقدير خلال العقد الأول من الثورة أن تغييرا لا بد أن يأتي ويطيح بحكم رجال الدين، لذا حافظت على علاقة ببعض من لها في طهران، وهو ما جعلها تتوسط أو تشارك في غير صفقة سلاح سرية مع الإيرانيين على أمل استثمار ذلك في لحظة سقوط النظام، وهذا ما لم يحدث بعد أربعة عقود.

ما حدث هو بروز مساحة التوتر الأبرز والأكثر تهديدا بحرب في المنطقة. حرب بأوجه عديدة، لكنها حتى اللحظة تبدو محكومة بسقف يجعلها لا تتدحرج نحو المواجهة الشاملة والمباشرة، وإن كانت في مناسبات عدة كادت أن تخرج عن السيطرة. فتصريحات المسؤولين الأميركيين والأوروبيين حول تداعي المحادثات النووية، وعلى رواية أخرى انهيارها، بالتزامن مع عودة بنيامين نتنياهو للحكم، يرفع من منسوب القلق من تصعيد بدون سقف واضح يمكن أن تسعى إليه إسرائيل لإطلاق رصاصة الرحمة على اتفاق 2015 النووي، وفي ذات الوقت تدمير البرنامج النووي الإيراني. يستبعد البعض هذا السيناريو لعدم اقتناعهم بأن إسرائيل قد تعمد لهذه الخطوة من دون إذن واشنطن المنغمسة حاليا في حربها بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا، حيث أن رغبتها واضحة في عدم تشتيت اهتمام العالم عن الحرب في أوروبا في مثل هذه الظروف.

لكنها الظروف نفسها، أي الحرب، التي وضعت طهران في مرمى اتهامات الغرب ببيع أسلحة وطائرات بدون طيار إلى روسيا، بما يعنيه ذلك من تعميق حالة العزلة الدولية على طهران، إلى جانب الوضع الداخلي القلق بحكم أشهر من الاحتجاجات، كلها معا، تعطي رئيس الوزراء الإسرائيلي هامشا واسعا للمناورة على جبهات متعددة أوضحها سورية وأخطرها المفاعلات النووية الإيرانية.

تكثيف الضربات العسكرية لمواقع مرتبطة بإيران وحلفائها في سورية والعراق لن يكون مستبعداً، كما أن تفعيل عمل الخلايا الأمنية النائمة في طهران لاستهداف مواقع استراتيجية أو نووية لن يكون مستغربا، لأنه سيحظى بمباركة غربية غير معلنة، على اعتبار أن عمليات كهذه قد تؤخر البرنامج النووي عن بلوغ العتبة النووية، وتساعد الأطراف الغربيين في كسب المزيد من الوقت، قبل ان تقرر طهران سلوك طريق القنبلة، في حال أرادت ذلك.

لكن ما يبدو على غموض كبير حتى اللحظة هو رد فعل طهران. التجارب السابقة قدمت مؤشرات شديدة الخطورة لخصومها، بأنها محدودة الخيارات عندما يأتي الأمر للرد على أي اختراق لأمنها، اللهم إلا في المجال السيبري.لا في سورية تبدو طهران قادرة على الرد بحكم ظروف النظام الجديدة، وتحفظه على مبادرة الإيرانيين بأي خطوة قد تعرقل إعادة استيعابه إقليميا أو حتى دوليا في وقت لاحق. زيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد والتواصل مع تركيا وإن كان بوساطة روسية، لكنه من المستبعد أن يكون بدون ضوء أخضر أميركي، قد يكون الهدف منه على المدى البعيد خلق مساحة للرئيس السوري لتقنين العلاقة الميدانية بشكل أكبر مع الإيرانيين، من دون إيذاء أصل وجودها. بالتالي تحافظ دمشق على تموضعها بما يتناسب مع خطابها السياسي، لكن تتراجع عن كونها ساحة قتال ومساحة فوضى وهذا ما يعني عمليا عودتها لما كانت عليه قبل ٢٠١١.

معضلة الرد على الهجمات في سورية يقابلها معضلة أكبر في ردع العمليات التي تطال الداخل من قبيل تفجيرات واغتيالات، إذ أن بعض الهجمات قد لا تكون عليها بصمات الموساد وبعضها الآخر قد يجري بشكل يجعلها أكثر التباسا، وهو ما سيزيد دون شك من تكبيل الإيرانيين الذين قد يُدفعوا لتبني مسارات لم يختبروها من قبل لفرض معادلة ردع ناجعة.

ما لم يفكر فيه شمعون بيريز في طريقه إلى طهران عام 1977 هو أنه سيكون آخر مسؤول إسرائيلي رفيع يزور طهران، لتوقيع اتفاق من هذا النوع، وربما لو قيل له في تلك اللحظة بأنه بعد سنوات قليلة سيكون أكثر المتطرفين في مواجهة ما سيعرف بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكان سيتعجب ربما، وربما كان ليستنكر، فالعلاقة في الستينات والسبعينات كانت أكثر من مطمئنة للتصور الإسرائيلي ولا سيما بعد توقيع اتفاق السلام مع مصر. لكن طائرة عائدة من باريس غيّرت كل شيء، ولم تبقِ لبيريز سفارة في إيران، حينذاك، بدأت حرب طويلة.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: