قصة فارسية قصيرة مترجمة
جاده إيران- ترجمة/ ديانا محمود
اهتمّت الكاتبة الايرانية المعاصرة فرخنده آقايي (مواليد 1956) بهموم النساء في إيران، فروت قصصهنّ أدباً.
تعتبر آقايي أن المرأة بذاتها موضوع جذاب، ولأنها امرأة أوّلاً، ترى أنه بمقدورها تناول هواجس الأنثى ببساطة وشفافية.
لفرخنده عدد من المجموعات القصصيّة والروايات، اخترنا منها قصّة “الجنة” من مجموعة “القطط الطبشوريّة” المنشورة عام 2002.
الجنّة (الجزء الأول)
فرخنده آقايي
على ساحل البحر البارد أواخر فصل الخريف، كانت أجسادنا تتلاطم مع الأمواج في حركاتٍ سريعةٍ، تحت شمسِ باهتة لا فائدة من أشعّتها سوى لونها الأصفر.
على عجَلٍ نبلّلُ أجسادنا بالمياه، ونبدأ سباحتنا كي نخفّف عن جلودنا وخز البرد. شهيق زفير. شهيق زفير. بصرخة خلف الأخرى، نعود إلى الساحل بأجسام مقشعرّة، لنختبئ سريعاً بمناشفنا الكبيرة ونجلس معاً لنكمل ثرثرتنا.
النساء ترسل أطفالهنّ إلى المدارس، ويحضّرن طعامهنّ إلى الساحل ويجلسن على الرمال يتسامرن ويتناولن الأطعمة. لم أكن أعرف لغتهنّ، يحاولن أن يبدأن معي حديثاً بكلمات بسيطة وإشارات. كنا نقرأ الصحف معاً ونطالع المجلّات، ونتحدث عن الحرب والسلام والمفاوضات واللقاءات والإبادات وإعادة السيطرة والقنابل والاغتيالات والانقلابات العسكرية.
لم نكن ضالعين في أيّ مجال لكنّنا نحب الكلام، برنامجنا اليومي نفسه، نأتي إلى الساحل، نستلقي في مناشفنا ونتحدّث لساعات وساعات حتى تغيب الشمس وتظلم السماء ويبدأ المطر بالهطول.
تنظر النساء إلى ساعاتهنّ، يضعن متاعهنّ في الحقائب، ويرتدين ملابسهنّ ويركبن دراجاتهنّ النارية البالية نحو المدرسة، معتمرات قبعات مضحكة، من بعيد يلوّحن لي ويمضين.
في ذلك اليوم الذي وصلتُ فيه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، لم أكن أعرف السباحة ولم يكن لدي لدي منشفة. الشمس مضيئة وسط السماء والناس يستلقون تحت أشعّتها في صفوف طويلة لحمّامهن الشمسي.
على الساحل الأزرق كان كلب كبير بنّي اللون، يلعب مع الأطفال. كأنّه كلب شارد. يتسلّى بكرة حمراء فيما يسبح الأولاد داخل البحر. يرمى الكرة نحو الأمواج ثم يركض خلفها ويُحضرها. يعبث بالرمال ويصنع حفرة يضع داخلها الكرة ثم يخرجها وهو ينبح بصوت عالٍ سعيداً، يعود ويرميها إلى الأمواج. إلى جانبه كان هناك مجموعة من الشبان والفتيات يتقاذفون الكرة عالياً مع الأمواج، ويسبحون خلفها لتأتي بها ثانية.
في البداية كنت أمضي وقتي على الساحل مشياً هنا وهناك، أتنزّه بين الناس وأسأل النساء العاريات ماذا سيُجِبْنَ الله يوم القيامة؟ كنّ يبتسمن لي فهنّ لا يعرفن لغتي، ربما اعتقدن أنّ ما أقوله شعر أو أغنية فيلوّحون لي بأيديهنّ.
الآن تغيّر الطقس، أصبح بارداً. أحيطُ جسدي بمنشفة جديدة. الجميع يعلم أنّني مبتدئة ولم أكن هنا طيلة الصيف. عندما تعلمت السباحة اشتريت هذه المنشفة من سوق رخيصة، زهرية اللون مطرزة الأطراف.
مع نسمات الخريف الباردة، أجلس على الشاطئ بالقرب من النساء، ألتفُّ بالمنشفة ونقرأ معاً الصحف ونتبادل أطراف الحديث. صحيح أنّني لا أعرف لغتهم جيداً، لكنهنّ يشرحن لي كل كلمة، يرسمن على الرمال البرجين التوأمين لمدينة نيويورك. أشير إلى صورة الرجال العرب في الصحيفة، وأشرح لهنّ كيف يتمنى هؤلاء الذهاب إلى الجنة بعد عمليتهم الانتحارية.
يسألن بتعجب: “الجنة”؟ أجيب: نعم. يستفسرن عن شكل الجنة وأيّ مكان تكون. أشرح لهم ثم تبدأ بعدها جدالات لا نهاية لها.
جميعهنّ أصبحن يعلمن أنني جئت من أرض لا تعرفها أي واحدة منهن. لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ أناس غرباء من حولنا، يقتربون ليستمعوا إلى قصة الجنة بلغة لا زالت هي الأخرى غريبة بالنسبة لي.
“وهؤلاء الذين كانوا في الأبراج مصادفةً ماذا عنهم؟” تأتي الأسئلة لتنبهني أنّ أجوبتي المختصرة لم تعد وافية، عليّ أن أتأمّل أكثر وأحاول الاستطالة في أجوبة غير موثقة. عليّأن أُظهر لهم أنني الأخرى في جدال مع نفسي، وأتيح لهم المجال ليتكلّموا هم أيضًا.
أرادوا أن يوضحوا لي موقفهم وينصتوا بعدها لموقفي، ثم يكرروا ما هم على قناعة به، أصغي بدوري بهدوء تام. لم تعجبهم أجوبتي الصريحة والقصيرة، فهي تنفّرهم منّي وتجعلهم يهربون.
كانوا يفضلون الأجوبة الدقيقة والتفاصيل. كانت الكلمات تأتي بمفردها متدفقة بقوّة كسيل، ثم نعود نحن لنتّجه نحو البحر في هواء خريفي بارد، بعجلة وحركات سريعة تسعف أجسادنا المدهوشة بالبرد، بكمية من الدفء نمضي نحو المياه الباردة محاولين تقليل صدمة البرد، ثم شهيق زفير، شهيق زفير، بصرخة خلف الأخرى نعود إلى الساحل بأجسام مقشعرّة لنختبئ سريعاً بمناشفنا الكبيرة ونكمل الجدل.
عند المغيب يأتي ميكيل إلى الساحل، وعلى كتفيه منشفة كبيرة، وخلفه كلبه الكبير يتعقّبه بتلكّؤ ليرمي بنفسه على طرف الشاطئ. تسرع الطيور لاستقبال الرجل العجوز، تحطّ على كتفيه وتعلو من جديد لتحلّق قربه. يتنّزه الرجل العجوز الباسم على الشاطئ، ثم يبسط منشفته على الرمال ويُخرج من كيسه حفنات قمح وينثرها على المنشفة. تسرع الطيور نحوه لتلتقط حبّات القمح من مناقير بعضها البعض، ثم تتأرجح كالحيوانات المدربّة على رأسه ووجهه، وهي تنقره بهدوء وهو غارق في الضحك.
تقول النسوة هنا إنّ ميكيل يحب ماريا، ويثرثرن قليلاً ويضحكن. في يوم من الأيام وجدن السيّدات لي معلّم لغة، كان أستاذاً في المدرسة، وهو مدرّس أولادهن، الأخ الأصغر لميكيل وصديق طفولتهن.
في أول مرة اصطحبني ميكيل معه إلى المدينة، جلسنا معاً أنا وهو وكلبه في السفينة. عمر ميكيل ستون سنة تقريباً، يُعلّقُ في إحدى أذنيه قرطاً فضياً، ويلقي التحية على الناس مثل الهنود. يجمع كفّيه ويرفعهما نحو جبينه. كان ينسى في كلّ مكان نمّرُ به شيئاً ما فأعود أدراجي بحثاً عنه. خوذة الدراجة النارية، حقيبته الجلدية القديمة وأشياء أخرى، أعيدها له. واجهتنا مشكلة أثناء ركوب السفينة، كلب ميكيل يخشى من المياه، لذا يتوجب سحبه نحو السفينة بالقوة. الشرطة لم تسمح للكلب بالصعود، فربطه بالسلم الحديدي على الرصيف. لكن الكلب بدأ بالعواء والنحيب حتى سمحت الشرطة لميكيل بحمله إلى السفينة. كان الكلب يتنقل بين غرف مخفر الشرطة ویتسلّل إليها، فيما كان ميكيل يشرح عن وضعي لمسؤول الأجانب. بالنهاية طلبوا منهأن يُمسك بكلبه، فاستلقى إلى جانبه وغفى سريعاً وبدأ بالشخير. جفناه يتحرّكان ويصدر أصواتاً مختلفة وكأنه يحلم.