الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة29 أكتوبر 2022 14:36
للمشاركة:

إيران.. صدام السرديات

إنه الخريف في طهران. أوراق الشجر الصفراء تتهاوى نحو سجادة ذهبية تمتدُّ من شمال العاصمة إلى جنوبها. الصورة رومانسية جدًا إذا ما عُزِلَت عما يحيط بها من أحداث، لكنها في الواقع لا تحتمل أي عزلٍ عن السرديات المتعاكسة بين مشهد مقصٍّ وضفيرة وامرأة، ومشهد مسلَّحٍ يُفرِغُ رصاصاته في ضريح ديني مُرديًا العُزَّل على الرّخام المصبوغ بالدم.

بالمختصر، هو خريف إيراني ينبئ بشتاء محمَّلٍ بعواصف لعلّها تكون متقطّعة، لكنها لن تمرَّ مرورًا هادئًا على إيران.

ستة أسابيع مرّت على شرارة التظاهرات التي كلّما خفتت عادت لتشتد. مجدَّدًا المسألة لا يمكن حسابها بالأعداد، بل بعمق الهزّات الارتدادية التي تنتقل من مكان إلى آخر. الجامعات، المدارس، البازار، المجمعات التجارية، كلّها تشهد بين حين وآخر صرخات تصل إلى العالم عبر المقاطع المصوّرة.

الشعارات المرفوعة تخطت الخطوط الحمراء التي كانت تحكم تظاهرات الماضي. ما هو استثنائي الآن هو المطالبة بسقوط النظام وسقوط القائد الأعلى. لم يكن من الممكن تكرار هكذا شعارات سابقًا على مسمع الجميع، لكنها أضحت سائدةً الآن.

تظاهرات الطلّاب في من جامعات العاصمة طهران يوم الذكرى الأربعين لوفاة مهسا أميني المثيرة للجدل، كذلك الحال في مدينة مشهد ثاني أكبر المدن وأكثر مدن إيران قدسية بالنسبة للمسلمين الشيعة، خروج المتظاهرين بالآلاف في سقز، مسقط رأس مهسا، وارتفاع صوت النخب مجددًا، كلُّ هذا يدلُّ على أنّ ما يحدث ليس بموجة كما في حالات سابقة. بالنسبة لمن في الشارع، بغض النظر عن أعدادهم والبيئة التي تؤيد شعاراتهم في البيوت، هي لحظة خريف يريدون أن يصنعوا منها تغييرًا جذريًا.

لهؤلاء مؤيدون في الخارج. للمرّة الأولى منذ سنوات تكون هناك حالة جامعة في الشتات الإيراني. تظاهرات أوروبا، لا سيما تلك التي جمعت الآلاف في برلين، بدت وكأنها استعراض قوة لحالة معارضة تتشكل وتقودها وجوهٌ لم تكن معروفةً في السابق. أحد هؤلاء هو المتحدث باسم جمعية عائلات ضحايا الطائرة الأوكرانية حامد اسماعيليون. الرجل فقد زوجته وابنته في الحادثة، وعلى مدى العامين الماضيين بنى لنفسه حضورًا في مجتمع الشتات، مستفيدًا من مأساته الشخصية التي أعطته مشروعية بين المعارضين ليكون أحد قادة حراك الخارج.

الخارج دومًا يشكّلُ حالة إشكالية بالنسبة للداخل، وهذا ما يستفيد منه النظام في تأطيره الحراك بأسره تحت عنوان المؤامرة. وزارة الاستخبارات واستخبارات الحرس الثوري اتهمت بشكل لا يقبل اللبس الولايات المتحدة وإسرائيل ودولًا أجنبية بدعم التظاهرات وما وصفتها بأعمال العنف والشغب بهدف زعزعة أمن البلاد. البيان صدر بعدما قدّم أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني تقريره لمجمع تشخيص مصلحة النظام، حيث أكدت معلوماته أنّ الاستخبارات الأميركية أمرت عملاءها في إيران بالإساءة للمقدسات وحرق القرآن والمساجد واستهداف القوى الأمنية وعلماء الدين، وأنّ هناك تعاونًا بين الاستخبارات الأميركية والبريطانية وجهاز الموساد الإسرائيلي وبعض الدول التي وصفها بالرجعية، في إشارة إلى المملكة العربية السعودية.

البيان جاء بعد ساعات من الهجوم الذي تبنّاه تنظيم “داعش” على مقام شاهتشراغ في شيراز، والذي أسفر عن سقوط 15 ضحية من المدنيين. كما أنه أتى أيضًا بعد انقسام حاد بين مؤيدي المتظاهرين من جهة والقاعدة الشعبية للنظام بشأن النظرة إلى الهجوم. سردية معارضة تروّج لنظرية مؤامرة تتهم النظام بتدبير ما حصل، وسردية مقابلة تتهم التظاهرات بإلهاء رجال الأمن عن القيام بواجباتهم والتسبُّبِ بالمجزرة التي وقعت. صدام السرديات هذا يذكّر بما حدث في سوريا قبل سنوات.

لكنَّ السرديات المتصادمة في هذه القضية ليست سوى انعكاسًا لمشهد مأزوم أكثر اتساعًا دفع بوجوه كانت خارج الصورة لسنوات – كالرئيس الأسبق محمد خاتمي – للدخول على خط الأزمة، في محاولة لمد اليد في عملية احتواء الشارع. كان لافتًا نقل مواقع مقرّبة من الحرس الثوري تصريحات خاتمي مع إظهار صورته، بعد أن كانت هذه الصورة نفسها محظورة على مدى ثماني سنوات ماضية في الصحف والمواقع والتلفزيون. خاتمي دعا للتصدّي لمثيري الشغب في البلاد مع التأكيد على حق الناس بالمطالبة بحياة كريمة وآمنة وعادلة من دون التلوّث بالعنف.

ورغم رمزية واستثنائية التصريح، لا يبدو أنه سيحمل أي تأثير حقيقي على الشارع، إذ إنّ عصب الحالة التي كانت مؤيدة لخاتمي قبل سنوات خرج من مساحة الانتقاد والمطالبة بالإصلاح إلى معارضة النظام بأكمله، وهذا ما يحدُّ كثيرًا من قدرة الرجل على فرض معادلة جديدة. مع ذلك، فإنّ ذلك قد يساهم في خلق بيئة جديدة للعمل السياسي في البلاد، وهو ما يمكن تشخيص واقعيته بعد أشهر قليلة من الآن، عندما يحين موعد الانتخابات البرلمانية، وانتخابات مجلس خبراء القيادة والمرشحين الذي سينجحون في تخطي البوابة الحديدية لمجلس صيانة الدستور للمشاركة في المنافسة.

يبقى هذا أمرًا هامشيًا اذا ما بقيت حالة الاعتراض في الشوارع مستمرّة، وإذا ما بقيت الجامعات منشغلة خلال بعض ساعات الدوام بالطلاب المحتجين، وإذا استمر الصدع بالاتساع والسرديات بالتصادم حتى على ما يمكن أن يكون عامل جمع لا افتراق. والسرديات هنا شعبوية لكنها تفتقر لعوامل امتصاص ما يقابلها، جامدة في لحظة تصادم ما يجعلها تربة خصبة للتعبئة والاستقطاب لا الحوار .

في تظاهرات 2017/2018 والموجات التي لحقتها، حضر الصراع السياسي بين الحكومة التي كان يرأسها حسن روحاني وأجنحة النظام المختلفة في الشوارع، وساهم ذلك تدريجيًا في عملية كسر حاجز الخوف، لا سيّما بين الذين كانت تتّسع الهوّة بينهم وبين الجمهورية الإسلامية.

ما يحدث اليوم هو نتاج مرحلة استُخدمت للضغط وحذف أسماء بشكل تدريجي من الصورة المتخيّلة داخل النظام لمستقبله. ولم يتوقف الأمر هنا، بل ازداد وازدادت معه العوامل التي ذكرها الكاتب في مقالات سابقة، وبالتالي باتت اليوم إيران أمام لحظة حقيقة قد يصح معها استذكار المقولة الشهيرة التي أرساها آخر سفير أميركي في طهران في زمن الشاه، ويليام سوليفان: “علينا أن نفكّر في اللا متوقّع للسماح لعقولنا بالتعامل مع اللا متوقّع في حال حدوثه”.

المسألة هنا ليست سقوط النظام، فهو أكثر تنظيمًا واتساقًا، ولديه قواعد شعبية لا تزال تؤمن به وبنهجه بعد كل هذه السنوات، لذلك فهو لا يبدو في خطر على المدى القريب أو المتوسط. لكنَّ ما يحدث، وتسليط الضوء من خلال الصحافة الغربية على جماعات متمرّدة مسلّحة في كردستان العراقية، والتفات المعارضة الخارجية للمرة الأولى منذ سنوات، ودور إيران الإقليمي وعلاقتها المتأزمة مع الولايات المتحدة منذ عقود والاتهامات الأخيرة بدخولها كمورِّدِ سلاح لروسيا في الحرب في أوكرانيا، كل هذا يفعّل نواقيس خطر عديدة، تبدأ بالحدود الواسعة والدول التي تجاورها، ولا تنتهي بالطموحات القومية للأقليات التي تسكن هذه المناطق وتفاقُمِ الحالة الاحتجاجية في صفوفها.

هي وصفة مكرّرة لكن ناجعة لاشتعال صراعات مسلّحة، كما في غير بلد في المنطقة، وهو ما قد يحرّك بركانًا هامدًا منذ عقود لن يسلم من انفجاره أحد في المنطقة وخارجها.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: