الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة22 أكتوبر 2022 18:42
للمشاركة:

إيران… الحضور من السماء

‎الباحث في الصحافة الروسية المؤيدة للحكومة عن نصٍّ يحتفي بدور المسيرات الإيرانية في معارك أوكرانيا، لن يجد شيئا من هذا القبيل. كما انه لن يجد نصًّا يعتدُّ به يثبت أن لهذه المسيرات الدور الأبرز في الإصابات المباشرة لقلب البنية التحتية الأوكرانية، ولا سيما الكهربائية منها، في كييف وغرب أوكرانيا. وبمعزلٍ عن دوافع الصمت الروسي غير الرسمي تجاه هذا الأمر، فإنه يبدو صمتًا مبرّرً ومفهوما، خصوصا وأن الخطاب الإيراني الرسمي نفسه، ينفي على نحو قاطع أن تكون طهران قدّمت أي سلاح لروسيا.

المتداول عن دور المسيرات “شاهد 136” وغيرها من طائرات برنامج المسيّرات الإيراني، موجود وبكثافة في الصحافتين الأميركية والأوروبية الغربية، وقبل ذلك، في التصريحات الرسمية الأميركية والأوروبية، وفي نقاشات مجلس الأمن الدولي.

‎هكذا، لا يوجد، إذا، ما يؤكّد رسميًا، أن مسيّراتٍ إيرانية تلعب دورًا حساسًا في المواجهة المتصاعدة في أوكرانيا. لكنّ سياق الحرب هناك فيه من الشواهد الكثير، حول التناقض بين الوقائع والروايات الرسمية لمختلف الأطراف، إن كان ذلك سياسيًا أو عسكريًا أو أمنيا أو استخباراتيًا.

‎منذ أسابيع يشاهد العالم أجساما طائرة تهوي على منشآتٍ أوكرانية ثم تنفجر فيها. الأذى واضح وكبير، وأبرزه انقطاع أكثر من ثلث التغذية الكهربائية في أوكرانيا، مع ما يعنيه ذلك من قطع التغذية الأوكرانية بالكهرباء النظيفة لدول الاتحاد الأوروبي. لا تملك موسكو ترف كييف، في القول إنها تستخدم عتادًا غير الذي تصنعه وتسعى من خلال حروبها لتسويقه وبيعه. ومن الأفضل لها ولطهران، بديهيًا، عدم الإعلان عن صفقات من هذا النوع. ولا بأس ببقاء السلاح الروسي في الواجهة، كقبلة المريدين سلاحًا نوعيًا في سياق معاركهم مع واشنطن وحلفائها في العالم. لذلك، ينفي مثلا المتحدث باسم الكرملين دمتري بيسكوف علمه بوجود طائرات غير روسية يستخدمها جيشه، وتهدد موسكو بإعادة النظر في العلاقات مع الأمم المتحدّة إن ذهبت نحو تحقيق حول دور المسيّرات الإيرانية في هذه الحرب.

تنفي إيران أيضًا، لأنّها اعتادت على التركيز في إحداث التأثير الميداني وترجمته سياسيًا بنفس طويل، من دون الاتكال على الصورة الإعلامية، وهو ما يضرّها كالعادة. يكفي مثلا أن برنامج طهران للطائرات المسيّرة، لم يتم الترويج له كما يتم الترويج لطائرة “بيرقدار” التركية. ويكفي أيضا، كمؤشر يستدعي التوقف عنده، استخدام جميع حلفاء طهران للمسيرات في عملياتهم النوعية من لبنان إلى اليمن مرورا بالعراق، من دون أن ترد طهران على الاتهامات بضلوعها في تطوير أسطول مسيّرات المحور الذي تقوده والذي لا تزال اثاره اغارته على منشآت آرامكو السعودية حاضرة. يكفي ما سلف للقول، إن إمكانية وصول أجيال المسيرات الإيرانية الجديدة إلى القوات الروسية، أمر وارد جدا، وإن لم يثبت رسميًا.

‎والحال هنا، أنه وبمعايير ما بعد المواجهة الأطلسية – الروسية في الربوع الأوكرانية، يبدو واضحًا، وباستثناء الدور التركي الرمادي، أنّ طرفًا لن يقبل بخسارة من يمثّله في هذه المعركة الكبيرة. وهنا، نعود إلى الفارق البديهي بين الخطاب المعلن والأهداف المرجوّة. تقول الصين وإيران إنهما تدعوان إلى حلٍّ سياسيٍّ لهذه المعركة. لكن عاقلًا لا يصدّق أن انكسار روسيا سيقتصر على انكسار روسيا، ولن يتعداه إلى محاصرة الصين وتجديد محاولات تطويع إيران بزخم الهزيمة الروسية. يُضافُ إلى ذلك، تمكّن طهران من إفراغ العقوبات من جزء كبير من قوتها بالتعوّد على أمضاها والالتفاف عليها. ومن هنا، فإن المكاسب الإيرانية المفترضة من دعم روسيا بالمسيّرات الانتحارية، أكبر بكثير من عقوبات الصراخ الغربي، إذ أن الغرب (الأميركي والأوروبي) وفق ما يرى مسؤولون إيرانيون بارزون، لم يعد في المكان الذي يسمح له بفرض العقوبات المؤثرة، بينما تشتكي أوردة مدنه من أزمات الطاقة المتراكمة، وما ينجم عنها، تصاعديًا، من أزمات اقتصادية عميقة بدأت تودي بحكوماته من روما الفاتنة.

‎مسار الضخّ الإعلامي الأميركي حول دور المسيرات الإيرانية يبدو مدروسًا وغير انفعالي، من الحديث الرسمي والإعلامي عن شكوك حول دور هذه الطائرات الثقيلة الحركة، إلى بدء نشر المعلومات الأميركية عن وجود “مستشارين” إيرانيين في شبه جزيرة القرم، لتوجيه الاستخدام الروسي للطائرات الإيرانية والاستفادة القصوى من قدرتها في تدمير أهداف العدو، أو استنزاف دفاعاته الجوية ماليًا وتذخيريًا. في المحصّلة، لن يتراجع الغرب عن روايته الجديدة حول ضلوع اليد الإيرانية في المعركة الدولية الأكبر منذ نهاية الحرب الباردة. والأرجح أنّه يروّج هذه السردية، بناء على معطياتٍ ميدانية فرضتها “شاهد 136” وفق ما تقول روايته مواربةً، وجعلته يستيقظ، متألّمًا، من نشوة استعادة الجيش الأوكراني مساحات شاسعة كانت تحت السيطرة الروسية. يفرض الغرب حضورًا إيرانيًا جديدا في المسرح الدولي. ليس نوويا هذه المرة، بل من السماء إلى الأرض، وكثيرا ما تحب إيران ربط حركتها بالسماء.

ربّما لا يطول الوقت حتى يتكشّف رسميًا ما بين موسكو وطهران، كما تكشّف لاحقا ما بين حلف شمال الأطلسي وتدريب الأوكرانيين، والأمثلة تضرب ولا تقاس. يحتاج ذلك استقطابا عالميا أكثر حدّةً من الموجود حاليًا، والذي لا يمكن لطهران أن تأخذه بمفردها على عاتقها قبل انقسام العالم بوضوح. إلى أن تحين تلك اللحظة العالمية، وربّما لا تحين، تبدو الموازنة بين توسيع الدور الخارجي ومعالجة الأزمات الداخلية بهدوء، ضرورة حتميّة لطهران، وإلا فإن المسيّرات تفقد فعاليتها السياسية إن اهترأ المشهد السياسي الداخلي بأزماته، حيث قد تصل الأمور إلى لحظةٍ لا ينفع فيها تعزيز الدور الخارجي، حتى وإن كان ذا هيبة، كهيبة الحضور من السماء.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: