تظاهرات إيران: الاستيعاب الصعب
في مناطق عديدة من طهران، عادت الحياة إلى ما كانت عليه سابقا. عاد الكثير من الجمر ليستقر تحت الرماد إلى حين. لكن الصوت الذي سمعه الجميع في إيران لم يخفت بعد، في ساحات بعض الشوارع، في المدن، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، والأهم داخل البيوت وفي المقاهي والجامعات، بل وحتى في الحوزة الدينية.
هذا الصوت الذي استشرفت ذبذاته الكثير من الدراسات خلال السنوات الماضية، والذي لخصه كتاب “صدايي كه شنيده نشد” او الصوت الذي لم يسمع، في العام 2016، كان صاخبا لدرجة أن الشغل الشاغل للدولة بكافة مؤسساتها كان لاحتوائه، وهنا بيت القصيد.
خلال السنوات الماضية شهدت الجمهورية الإسلامية صعوداً غير مسبوق لظاهرة قد تبدو عادية، لكنها في الواقع شديدة الدلالة على سياسة الاحتواء التي هدفت بالدرجة الأولى إلى حصر هذا الصوت في مساحات يمكن السيطرة عليها بدون كلفة عالية. بناء المجمعات التجارية الكبرى، والمقاهي التي تضاهي تلك التي في العواصم الغربية، وثورة المشاريع الناشئة في المجال الرقمي، كلها عكست توجها لبناء مساحة يمكن خلالها للطبقات المجتمعية المعترضة على الهوية الدينية للدولة، وتحديدا الجيل الجديد، العيش في فقاعاتهم الخاصة دون الولوج الى مساحات المواجهة والتعبير المفتوح عن الرأي. فطالما أن هذه الاتجاهات محصورة ضمن عالمها الخاص، فهي ستحاول المحافظة عليه قدر الإمكان والابتعاد عن أي نوع من الجموح الذي قد يحرمها مكتسبات الأمر الواقع التي حصلتها، بالتالي ستبقى معترضة لكنها لن تسعى لتصبح معارضة.
لكن حساب البيدر لم يوافق حساب الحقل. فهذه المساحات تحولت تدريجيا إلى دولة متخيلة ضمن دولة الولي الفقيه، نجح فيها المعترضون في فرض حريات كانت قبل سنوات قليلة خطوطا حمر لا يمكن أن تمس. التخفف من الحجاب كان واحدا منها، كذلك الاختلاط بين الشبان والشابات، والحفلات الصاخبة في بيوت شمالي طهران أيضا، إلى جانب الالتفاف المقونن على حظر وسائل التواصل الاجتماعي من خلال أدوات كسر الحجب التي تباع في المحلات. رافق هذه الحالة تمدد مساحة الانتقاد في بعض المواقع الإخبارية، كما تجلى الأمر في السينما، حيث برزت الرسائل التي حملتها أفلام أصغر فرهادي وسعيد روستاي وكمال تبريزي، وكان لافتا إلى درجة الصدمة عرض أفلام رفعت مستوى النقد إلى درجة غير مسبوقة كما في فيلم “مطرب” الذي صدم النقاد بمعالجته لقضية الفنانين الذين لا يجدون في الأدبيات الدينية هوية تمثلهم في تأدية عملهم تحت نظام الجمهورية الإسلامية.
اللافت هنا، أن هذه الطبقات المجتمعية بقيت بمعظمها صامتة خلال السنوات الماضية عندما تكررت حالات التظاهر في المدن خارج طهران أو المناطق الحدودية. لم يكن هذا الصمت إلا نوعا من التسوية في ظل عدم اقتراب السلطة من مساحتهم المتخيلة. ولأن المجتمع الإيراني مجتمع مؤقت، كما يصفه عالم الاجتماع والمؤرخ الإيراني هما كاتوزيان، أو قابل للهدم والتغيير، فالحال في الجمهورية الإسلامية لم يكن مختلفا. وعلى مدى العقود الأربعة الماضية، كانت عمليات التحول المجتمعية تتقدم، ولم تقتصر على اللمسات التجميلية، بل تخطتها لتحول جذري بحيث أنه لو حصلت مواجهة بين شاب من أنصار الثورة في العام 1979 وذات الشاب في العام 2022 لشعر بغربة شديدة عن نفسه.
يشبّه كاتوزيان المجتمع في بلاده بالأبنية الحديثة التي يفضّل أصحابها إزالتها وتشييدها من جديد بدل ترميمها كي تصبح أكثر موائمة للعصر. ويستند في فكرته إلى التحولات الجذرية التي شهدتها البلاد خلال القرون الماضية والتي فرضت تحولات على مستوى بنية المجتمع الذي كان مع كل تحول في النظام يشهد إعادة تشكيل جذرية، وهو الأمر الذي يقول إنه حفّز حالة من اللاأمان لدى مستويات مختلفة، وهي التي كانت تدفع المجتمع المهتز نحو التمرد في اللحظة التي يشعر فيها بانفلات خيوط اللعبة من الحاكم، وهو ما تحدث عنها الكاتب في المقالة المعنونة “الصدع الثاني”.
نظرية كاتوزيان أسست لمقاربة نفسية اجتماعية ترتبط بلا شك بالسياسة والاقتصاد، وهي إن حملت رسالة فهي أن التحولات المتراكمة على مدى سنوات يمكن لها أن تدفع كل من الحاكم والمحكوم لتفعيل آليات دفاع ذاتية للحفاظ على المكتسبات لأطول فترة ممكنة، كونها فترات مهما امتدت تبقى في العقل الجمعي الإيراني حالات مؤقتة. لذا تقدم مجددا خيار الاحتواء على أي خيارات أخرى. الاحتواء هنا هدف لتأجيل المشكلة التي ظهرت معالمها منذ سنوات، ولذلك حتى عندما خرجت التظاهرات في اعقاب وفاة مهسا أميني، كان الهدف الأصلي احتواءها، والاحتواء هنا تضمن مستويات مختلفة من التعامل، من الأمني في الشارع، إلى السياسي على المنابر وربط كل ما يحدث بالمؤامرة الخارجية التي تهدف بحسب المسؤولين الإيرانيين إلى إخضاع النظام والضغط عليه لأهداف متعلقة بدوره وتأثيره خارج الحدود. الخطاب هنا بدا تخوينيا بالكامل، وشد من أزره الاهتمام الأجنبي الكبير بالتظاهرات وانكباب وسائل الإعلام الناطقة بالفارسية والمدعومة من دول على خصومة مع إيران على تغطية يوميات الحدث الإيراني وتقديمه على أنه بداية تغيير جذرية ستنتهي بسقوط النظام. بل إن بعض المحللين المعارضين ذهبوا لطرح أفكار غير واقعية للحل، من قبيل دعوة “المجلس العسكري للحرس الثوري” لإطاحة نظام رجال الدين وإلغاء قانون الحجاب وتشريع نوادي الخمر والرقص، لأن ذلك سيعني أن “ديكتاتورية الحرس الثوري الإيراني يمكن أن تستمر 10 سنوات على الأقل في السلطة”.
ما لا يراعيه الطرح الأخير هو أن المجتمع الإيراني، كما أن فيه من يريدون الحريات الاجتماعية بأسقف مرتفعة، تعاظمت فيه أيضا حالة دينية متشعبة ترى في هذا النظام لا مجرد سلطة تحكم، إنما حالة مرتبطة بالعقيدة الدينية وعضويا بالحالة المهدوية التي يرون أن هذه الدولة تمهد وتؤسس لها. الانفصال هنا في التعامل مع الأزمة يجمع النظام وبعضا من معارضيه على قرار بعدم الاستيعاب والاندفاع نحو تثبيت معادلات جديدة أكثر إشكالية وتثبت حالة الانقسام العامودي بين المؤيدين والمعارضين.
هذا الانقسام لا يمكن حله بمقاربة ذات طابع ديني على غرار نشيد “سلام فرمانده” الذي تحول على مدى الأشهر الماضية إلى ما يشبه نشيد وطني لإيران الدينية والمحور الذي تقوده من الحدود مع العراق إلى البحر المتوسط، ولا بخطابات على لسان رجال الدين أو على منبر الجمعة، لأنه باختصار يمكن أن يخاطب فئة من الشعب، ولكنه قد لا يعني شيئا على الإطلاق لفئة ثانية. كما أنه لا يمكن أن يكون بطرح اجتثاث الحالة الدينية وتجاهل الملايين ممن يتبنون الاتجاه الثقافي للدولة، أو من لديهم ثقافة التدين حاضرة. هكذا مقاربات لن تغير في الواقع الكثير، بل ستدفع الأمور الى المزيد من التأزيم وتوسع الفجوة القائمة أصلا بين الجيل الذي بلغ الثلاثينات والأربعينات، من جهة، وبين النظام، كذلك ستجعل بعض جيل الألفية المنفصل كليا عن ثقافة الجمهورية الاسلامية أكثر توقا للانتقام والتغيير. وهذا ينبئ في حال الفشل في استيعاب الصورة بمواجهة مستمرة، حذّر منها أساتذة جامعيون إيرانيون، بينهم مسؤولين سابقين. فوزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف وفي لقاء في جامعة طهران قال بوضوح إن النظام سيكون مخطئا إذا اعتقد أنه يمكنه تجاهل الشعب أو قمعه. كما حث نائب رئيس البرلمان السابق علي مطهري النظام على فتح أبواب الحوار لا سيما مع السيدات اللواتي خلعن حجابهن، وهو ما أكد عليه رئيس البرلمان السابق علي لاريجاني الذي قال إن اكثر من 50 بالمئة النساء في إيران لا يرتدين الحجاب، داعيا للتعامل مع القضية تماما كالتعامل مع قانون حظر الصحون اللاقطة، والذي بحسب لاريجاني لا يطبق رغم اقراره. الحجاب هنا، بحسب لاريجاني، يجب ألا يكون من اختصاص الشرطة.
الأمر لم يقتصر على السياسيين والأكاديميين ووصل إلى الحوزة الدينية في مدينة قم حيث طالب مراجع كبار مثا حسين نوري همداني ومكارم الشيرازي الحكومة بالاستماع الى صوت الناس، لا سيما الشباب، بينما ذهب آية الله أسدالله بيات زنجاني الى وصف ما يحدث ب “لا شرعي ولا قانوني” وهو ما استفز عددا من وسائل الاعلام والشخصيات المقربة من الدولة لانتقاده.
كثيرة هي المطالبات، لكن التجربة تقول إن قيادة النظام تتعامل مع الاحداث باعصاب باردة. هذا دأبها منذ سنوات، اذ انها تحبذ توقيت انعطافاتها، في حال قررت الانعطاف، على ساعتها بعيدا عن الضغط والشارع والشعارات. بدا هذا واضحا في خطاب القائد الأعلى آية الله علي خامنئي ورئيس السلطة القضائية محسن ايجئي، كما أنه برز جليا في اتساع دائرة الاعتقالات وتحييد الحرس بشكل كبير عن التعامل مع التظاهرات. يقول قائل إن النظام قرأ التاريخ جيدا، فأي خطوة إلى الخلف تحت ضغط الشارع ستعطي للطرف المقابل عشر خطوات إلى الأمام. لكن رأيا آخر يقول، إن اي خطوة متأخرة قد تصبح بلا معنى في حال نجاح الشارع بانتزاعها بحكم الأمر الواقع، لا سيما إذا تحقق ذلك في مثل هذه الظروف.
وهنا يبدو جليا ايضاً، الاستيعاب الصعب.