تظاهرات إيران: حبس أنفاس إقليمي
في شوارع العراق، باستثناء الدعاية الأيديولوجية والصور المبعثرة بين شارع وآخر، لا شيء حقيقيًا يقول إن إيران تركت أثرًا طويل الأمد هنا. في الحوارات مع عراقيين عاش بعضهم في إيران وقاتل معها في الحرب ضد نظام صدام حسين، إجماعٌ على أنّ حلفاء طهران لم يتركوا لها ذِكرًا حسنًا، بل صنعوا كل الأسباب التي تجعلها اليوم عنوانا من عناوين الشعارات السلبية في التظاهرات ضد المنظومة السياسية.
وهكذا تجد بعضًا من العراقيين اليوم يتابعون ما يحدث في إيران من احتجاجات، بكثير من الاهتمام، وكأنّ مقتل مهسا أميني المثير للجدل حدثٌ عراقي تمامًا كما هو إيراني. يعوّل هؤلاء على أن تغييرًا في إيران سيسمح بتغيير في العراق، وبالتالي تَبَدُّلٌ في موازين القوى وفتح للمجال أمام تحوّل في الحياة السياسية في بلادهم. لكنّ معظمهم يبدو مقتنعا بأن الموجة الأخيرة من الاحتجاجات لن تغيّر الأمور جذريا.
هنا أحد انعكاسات اتساع رقعة تأثير الحالة الإيرانية، بحيث يصبح كل حدث بغض النظر عن احتوائه وامتداده، حدثًا إقليميًا، فإذا دق جرسٌ في طهران سُمِعَ رجع صداه في بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء وغيرها، وهكذا هو الحال في قضية أميني.
المسألة أبعد من الحدث عينه. إنه تراكمُ تراجعِ القدرة الناعمة الإيرانية لصالح القدرة الخشنة، تراجع الفكرة أمام القوة، وهذا الذي ينعكس في بلد كالعراق عجزًا في تعديل انطباع سائد عن إيران في المجتمعات الشيعية تحديدًا، حيث تحوّلت من حاضنة شعبية بعد سقوط نظام صدام حسين، ثم المعركة ضد “داعش”، إلى شوكة في الخاصرة يعترف بها الإيرانيون أنفسهم.
لا ينطبق هذا الكلام بشكل كامل على الحالة اللبنانية في شقها الشيعي، إنما في ما هو أوسع من ذلك على مستوى المكونات اللبنانية الاخرى. المشترك بين ظروف الداخل الإيراني والحالة العراقية ولبنان أنّ إيران وحلفاءها تعاملوا على مدى السنوات الماضية مع تعاظم قوتهم وتأثيرهم في هذه المساحات الجغرافية، وتحديدًا بعد حرب سوريا، على أنه بديل لحالة القبول الشعبي البعيد عن الأيديولوجيا.
قبل سنوات قليلة، كان يمكن القول إن لطهران مستويات عدة من المؤيدين في المنطقة. مستوى سطحي يشبه الجلد في جسم الإنسان. هؤلاء كانوا يتقاطعون معها في بعض العموميات من دون أي مشتركات فكرية. ثم مستوى يمثل اللحم، هؤلاء شيعة يرون في إيران حالة حماية من أي اخطار محدقة، وتحت اللحم قفص صدري يحمي القلب الذي يمثل الحالة الفكرية والايديولوجية الخالصة.
مشكلة طهران وحلفائها اليوم أنهم فقدوا الكثير من مستويات التأييد التي كانت تصنع لهم حصانة في مجتمعاتهم، وباتوا اليوم يواجهون على المسافة صفر من قلبهم، وهذا يجعل أي طعنة توجه لهم نجلاء مؤذية، وهو ما ينطبق على الداخل كما الخارج.
تغرق ايران والمحور الذي تقوده في حالة الوحشة الاستراتيجية التي تجعلهما يتعاطيان مع المحيط بتجاهل تام للوقائع، وهو ما حوَّل مفهوماً عليه إجماع كمفهوم المقاومة والصراع مع إسرائيل، إلى حالة إشكالية. بل إنّ البعض لم يعد لديه مشكلة في رفض أصل الفكرة لمجرّد كونها تشكل رافعة سياسية وميدانية للمحور الإيراني، رغم ما في هذا الرفض من إنكار لوقائع وسياقات متجذرة.
على مدى أربعة عقود، راكمت إيران في المنطقة تأثيرًا ونفوذًا لم يسبقها إليه أحد منذ زمن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. هذا الأمر وضعها في تنافس مع دول إقليمية بارزة كالسعودية وتركيا، وبشكل طبيعي على عداوة مع إسرائيل التي تقول إنها تريد إزالتها من الوجود. هذا التنافس وتلك العداوة صنعا سردية معادية لإيران على مستوى المنطقة، استخدمت لأجل تثبيتها أدوات إعلامية وسياسية متعددة، كما ساهم في تثبيتها بعض حلفاء طهران، وخطاب إيراني غير موحّد ومتعدد الإشارات.
نجح المحور الذي تقوده إيران في غير هدف وضع على قائمة أولوياته، وزاد هذا الأمر كثيرا من تعقيد الضغط الذي سيأتي عليه لاحقا. فهو ساهم في عملية تطوير المقاومة في لبنان وتحرير جنوبه من الاحتلال الإسرائيلي، كما رفد المقاومة بغزة بالمال والعتاد لتحقيق تحرير غزة في العام 2005. هذه القوى المقاومة في فلسطين ولبنان خاضت بعد ذلك عدة معارك ضد اسرائيل بدعم كامل من إيران كما في (2006، 2009، 2012، 2014، 2021).
بالتوازي كانت طهران تساهم في اطلاق مقاومة في العراق ضد قوات الاحتلال الأميركية وتنجح في التمدد تدريجيا في الحالة السياسية العراقية عبر بعض حلفائها. كانت هذه لحظة تحول في العلاقة بين واشنطن وطهران، فرضت على أميركا استخدام أدوات جديدة في التعامل مع غريمتها.
خلال العقد الماضي خاضت إيران معركتين رئيسيين خارج حدودها تحت عنوان المشاركة الاستشارية، الأولى لتثبيت حكم الرئيس السوري بشار الاسد في مواجهة معارضيه ومن خرجوا ليثوروا على حكمه وثانية ضد تنظيم داعش في العراق الذي احتل أجزاء شاسعة من البلاد.
في سورية والعراق تحديدا، بنت إيران سرديات استراتيجية حولت الحرب التي يخوضها محورها إلى “دفاع مقدس” عن الوجود قبل أي شيء آخر. هذه السرديات بقدر ما شدت من أزر المقاتلين والمؤيدين، بقدر ما بنت أسوارا بينهم وبين البيئات المقابلة.
هذا الواقع دفع بمؤيدي إيران للاستماتة في الدفاع عنها أمام خصومهم باستخدام كل ما طالته أيديهم من أدوات رأي وأفكار لتثبيت القدسية حولها، تمامًا كما فعل الخصوم في بناء سرديات مناهضة قائمة على شيطنتها وتحميلها كل أسباب التراجع والسقوط في المنطقة. وهذا الذي جعل حرب مهسا أميني في ساحات التظاهر العربية، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حربًا مستعرة لتثبيت سردية استراتيجية في مواجهة سردية أخرى، ولتقديم التظاهرات على أنها في طريقها لإسقاط النظام، مقابل رواية تؤكد أن النظام لا شيء سيؤثر عليه وأنّ التظاهرات التي تشهدها المدن الإيرانية لا تعدو كونها شغبًا مموّلًا من الخارج هدفه ضرب الجمهورية الإسلامية ومعاقبتها على مواقفها. الواقع أن من يصنعون السرديات على الجانبين، ويروّجون لها عربيًا، يدركون جيدًا أنّ تداعيات أي حدث إيراني كبير لن تكون معزولة عن المنطقة بشكل عام. من تدحرُجِ الأحداث نحو توتر أمني أو عسكري، أو تراجع النظام عن قرار فرض الحجاب وما سيليه من تداعيات، أو حتى تطوّر التظاهرات إلى مستوى تصبح فيه مصدر خطر على أصل وجود النظام، كل هذه السيناريوهات سيكون لها انعكاسها الإقليمي الذي سيعاد تشكيل المنطقة على أساسه، سياسيًّا، أمنيًّا وعسكريًّا.
لذا نجد خصوم طهران يتعاطون مع حدث أميني وكأنه الطلقة الأخيرة التي يجب استغلالها حتى أخر ذرة بارود لإزهاق حياة الجمهورية الإسلامية، بينما لا يعكس مؤيدوها أي نوع من المرونة في التعاطي مع التهديد، فهم خبروه في مساحات مختلفة سابقًا وبأشكال مختلفة، أكان في سوريا أو العراق أو لبنان، وهذه دول تمثل أعضاء جسد المحور، فكيف إذا كان الخطر محدقًا برأسه.