الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة23 سبتمبر 2022 21:50
للمشاركة:

حجاب الأزمة

إنه صيف عام ١٩٧٧. ظاهرة تجذب اهتمام مراسلة "نيويورك تايمز" في العاصمة الإيرانية طهران. كانت تراهنّ يكثرنَ في الشوارع. توجهت مارفين هو إلى وزيرة شؤون المرأة في حكومة الشاه. سألتها: "نلاحظ المزيد من النساء في شوارع هذه العاصمة الشرق أوسطية، وقد ارتدين الشادور، هل هو نوع من الاعتراض؟". تجيبها الوزيرة مهناز اتميامي، بحسب الصحيفة، وأفخمي بحسب الإسم الصحيح، نافية وجود حالة اعتراضية. إنكار لم يطل الوقت قبل أن ينكشف مع الشرارات الأولى لاندلاع الثورة.

شرحت الوزيرة لمراسلة “نيويورك تايمز” المولودة في الصين عن “الصحوة الروحية بين الشابات الإيرانيات”، وكيف أن زائرات المراقد الصائمات المصليات يزددن. تقول الوزيرة آنذاك: “يبدو أن هناك حاجة للدين، وكأننا تحركنا بسرعة في اتجاه غريب عنا” وتضيف: “إنها صحوة ضد الفراغ.”

لم يطل الأمر حتى امتلأ الفراغ بما يفيض عن الصحوة الروحية التي استنجدت بها افخمي لتفسير المشهد “التشادوري” المستجد في العاصمة. اشتعلت الثورة بقيادة آية الله الخميني وائتلاف من المعارضين. كان خيار الشارع بمعظمه في تلك المرحلة تولية رجل الدين الذي قارب الثمانين قيادة السفينة وتوجيه بوصلة النظام السياسي. 

انقلبت آية السفور إلى آية الحجاب المفروض قانونًا. لكن الصورة بدأت تتعدّل عقدًا بعد عقد. فقبل انقضاء العقد الرابع من الثورة، كان مشهد الحجاب في شوارع طهران يتخذ اتجاها تراجعيًا. التمرد على فكرة فرضه قانونيا بعد سنوات قليلة، وبالأمر الواقع بعد أشهر قليلة من انتصار الثورة، ظهر جليا في ضفائر الشعر المنسدلة من تحت اغطية الرأس المزركشة وذات الألوان غير المحمودة شرعا. تحول الحجاب الإيراني إلى حجابات، ومنها ما هو موضة لكل من ترغب بخلع الحجاب ولا تستطيع إلى ذلك سبيلا إلا بعد مغادرة مطار الإمام الخميني إلى بلاد الله الواسعة. تدريجيا، بدأ ينسدل الغطاء من الرأس إلى أوسطه، حتى استقر أخيرا كمنديل مسترخٍ على الكتفين. مسار لم يكن ناعما، بل لطالما اصطدم بدوريات شرطة الإرشاد، أو “گشت ارشاد” بالفارسية.

التقطت شخصيات رئيسية في النظام ذبذبات هذه الظاهرة وتعاملت معها بطرق مختلفة. باللين مرة، وبالتشدد مرة، وبالتغاضي مرات. لكن التعامل الاستيعابي بقي تحت سقف عدم التفريط بأصل وجود القانون الذي يمنع خلع الحجاب في الأماكن العامة. وبين مد وجزر عادت السلطات للتشدد مع الظاهرة، بعد طغيان الشعور بأن الأمور بدأت تخرج عن السيطرة، ولا سيما مع الجيل الذي يوصف بالجيل Z المولود في مطلع الألفية الثالثة. جاءت اليوم قضية وفاة مهسا أميني بعد توقيفها من قبل دورية للشرطة. صحيح أن من نزلوا إلى الشارع كان يحتجون على وفاة اميني عقب اعتقالها، إلا أن المعروف إيرانيًا هو  أن ما تشهده البلاد ليس نتيجة أزمة حجاب، بل هو حجاب الأزمة التي يغلي في داخلها غيظ أزمات أخرى. 

منذ عام ٢٠١٧ بدأت موجات احتجاجات صاخبة تهز المناطق الإيرانية لأسباب مختلفة. معظمها انطلق من  الأطراف وقليل منها ما وصل إلى العاصمة. الاقتصاد كان محفزا حقيقيا على الاعتراض، ولا زال كذلك، فضلا عن العناوين السياسية في الحالة الإيرانية التي دوما ما تتقدم. لكن غياب القيادة السياسية لحركة الاحتجاج على مدى السنوات الماضية جعلها بلا جدوى حقيقة، على صعيد الدفع نحو أي نوع من التغيير البنيوي وإن جزئيا. بعض التظاهرات كان ناتج صراعات سياسية داخل النظام، ولا سيما في عهدَي رئاسة حسن روحاني، لكن مجددا لم يكن أهل السياسة ليتقدموا المشهد بأي شكل، ولا سيما الحالة الإصلاحية التي أصيب بضربات قاصمة بعد انتفاضة 2009، أو “الفتنة كما يصفها أنصار التيار الأصولي. 

ماتت مهسا أميني في المستشفى بعد سقوطها في مركز الشرطة، وظهرت على الكاميرات تمشي وتسقط من دون أن يتعرض لها أحد. لكن ظهور الدماء على أذنها، ورواية بعض الشهود، دفعت الغاضبين لاتهام السلطات بتعذيب الفتاة والتسبب بمقتلها. هكذا اهتزت الأرض من جديد، وأخرجت أثقال متظاهريها من شرق إيران إلى غربها، كل يحمل سببه، وكل يتأبط هدفه، لإطلاق صرخة تطورت إلى مواجهات دامية لم يكن ممكنا حتى الآن التأكد من عدد قتلاها. 

أبناء الألفية ولدوا في دولة الولي الفقيه، لم يعرفوا الشاه يوما، ولا حتى أهلهم كانوا في سن يسمح لهم باختبار النظام السابق. هؤلاء يعيشون داخل إيران ولا يعيشون فيها، معظمهم بعيد عن السياسة اليومية والاصطفاف ضمن التيارات، لا زهدا، بل انفصالا عن الواقع الذي يشعرون أن بينهم وبينه فجوة تتسع. هي ليست فجوة جيل فقط، على الإطلاق، هي حالة طلاق غير معلن بين المؤسسة الدينية التي تحكم النظام، وشبان وشابات جل حياتهم بين موقع تواصل وآخر، وعلى محطة الانتظار لأول فرصة للرحيل عن البلاد.

لا يمكن فصل الرغبة بالهجرة عن الظروف الاقتصادية التي تسببت بها العقوبات الأميركية على إيران. هذا عامل هام، لكنه تماما كما في حالة الاقتصاد الإيراني المنكوب بالعقوبات، هناك عوامل لا علاقة للخارج بها، سوء الإدارة في كل هذه المجالات يتشابك كألسنة نار ينسج من لهيبها حجاب الأزمة.

اللافت، في هذه الموجة من التظاهرات، هو الانقسام العلني بين النخب وانحياز عدد من الشخصيات إلى الشارع، وهو ما انعكس في حالات الاعتقال التي طالت عددا من الصحفيين والناشطين الاجتماعيين. المشهد الوحيد المشابه لهذا كانت تظاهرات يناير كانون الثاني 2020 بعد اسقاط الطائرة الأوكرانية بالخطأ. تلك التظاهرات التي امتدت إلى الجامعات وشملت النخب، والتي جاءت بعد أيام قليلة فقط من خروج إيراني مليوني لوداع قائد فيلق القدس قاسم سليماني الذي اغتالته أميركا في العراق.  

حينها انفضت الجموع بشكل سريع، لكن في حالة العام 2022 لا يبدو أن شيئا مما على طاولة النظام يملأ عيون هؤلاء الشبان ويسكتُ ضجيج أسئلتهم، ولذلك اعرضوا عنها طويلا. هم في لحظة الشرارة التي اشعلتها وفاة مهسا أميني، أخرجوا ما في صدورهم من حنق وغضب بطريقة عنيفة لا تشبه الشخصية الإيرانية المشهورة بالهدوء وطول الأناة. ورغم غياب الأفق التغييري من صفات هذه الموجة، إلا أنهم تحركوا في مشهد مشابه لفيلم “الجوكر” الأميركي. ارتفعت الشعارات المختلفة ضد النظام وضد قائده ومؤسساته، حرقوا الحجاب وحتى العلم الإيراني، لم يعيروا اهتماما للرصاص، لكن السؤال الذي يطرح الآن في الشوارع، ماذا بعد؟

هو عين السؤال الذي يُطرح على الجانب الآخر من المشهد. ماذا بعد انتهاء التظاهرات؟ وماذا بعد الحديث عن المؤامرة؟ وماذا بعد القتلى والجرحى والتظاهرات المؤيدة للنظام؟ هل يمكن عندها القول إن الأزمة قد انتهت وسوف تعود الحياة إلى طبيعتها؟

على جانبي المشهد هناك مأزق بدأ يقسّم إيران إلى عوالم متعددة، متحدة جغرافيا مشتتة على مستوى الهوية الفكرية والسلوكية. الأزمة الثقافية الهوياتية تتعمق. إسلامية المجتمع باتت تقترب بشكل كبير من إشكالية علمانيته في زمن الشاه. يعيدنا هذا إلى ١٩٧٧، من الإنفصال بين الشكل والمضمون مع اختلاف جذري في كون نظام الجمهورية الإسلامية وقواتها المسلحة في الحرس الثوري والجيش وغيرها من مؤسسات أكثر تعقيدا من الزمن الماضي، بل وأكثر شعبية في ظل احتفاظ النظام بنسبة وازنة من الشارع المتدين والمؤمن بإسلامية الدولة. لكن هذا لا يمنع أن المأزق كبير، ويهدد بما قد يكون أكثر دموية في حال اشتعال شرارات أخرى، يغذي الإنكار جذوتها في ظل شح المراجعات والتعديلات المطلوبة اجتماعيا، وهو الشبيه بشحّ بحيرة أرومية. من قال يوما إن ارومية ستشح وتجف؟، على الأرجح لا أحد. لكنها شحّت وجفّت.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: