الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة27 أغسطس 2022 03:14
للمشاركة:

رئيسي النووي: التفاوض حتى النفس الأخير

‏‎قليل الكلام هو إبراهيم رئيسي، شخصية القاضي لديه أكثر حضوراً من شخصية عالم الدين، لذلك تجده أكثر تحفّظًا وأقل تعبيرًا حتى في اللقاءات الرسمية والعامة.

الواضح أنه منذ اليوم الأول لدخوله المكتب الرئاسي في شارع باستور، قرّر ارتداء عباءة رجل النظام، فالتزم إلى حد التعبّد بالخطوط العريضة والرفيعة التي جرى الاتفاق عليها، وذهب نحو تحقيق الأهداف المطلوبة منه من دون نقاش. بذلك يبتعد الرجل عن أسلافه الثلاثة، حسن روحاني، محمود أحمدي نجاد ومحمد خاتمي.

تروي شخصية عاصرت أحمدي نجاد وخاتمي عن علاقة الرجلين بالقائد الأعلى آية الله علي خامنئي وتقول: “كان خاتمي يناقش ويحتدّ، ولكنّه في نهاية المطاف كان أمام الجماهير وخارج الغرف المغلقة يلتزم بما يقرّه الإجماع. أما أحمدي نجاد، فكان يوافق خلف الأبواب المغلقة على كل شيء ويخرج إلى العلن لينفّذ ما في رأسه”.

يقول قائل آخر إنّ الرئيس روحاني كان يناكف خلف الأبواب المغلقة وميّالٌ لتنفيذ ما في رأسه خارجها. رئيسي ليس كأي منهم.

في المسألة النووية، أدرك رئيسي من اللحظة الأولى أنّ الهدف هو التوصّل لاتفاق نووي يضمن رفع العقوبات، لكن من دون التطبيع مع الولايات المتحدة، حتى على مستوى المفاوضين.

اتفاق الضرورة على لائحة أولويات النظام ونابع من المصالح الإيرانية العليا، بغض النظر عمّن يرأس الدولة.

أخذت حكومة رئيسي الملف من حيث تركته الحكومة السابقة، ولكنها هذه المرة جمعته بالأولويات الأخرى التي حددها الرئيس في خطاب التنصيب في آب/ أغسطس 2021. الأولوية للعلاقة مع المحيط، أو الجيران كما وصفهم، ثم تأتي النقاط الأخرى ومن ضمنها النووي. لكنّ التطبيع مع المحيط يحتاج للدفعة التي يمكن أن تعطيها المفاوضات النووية. العلاقة الملتبسة هنا حاولت الولايات المتحدة الاستفادة منها خلال المحادثات غير المباشرة، لعلّها بذلك توسّع التوافق النووي ليغطّي جانبًا إقليميًا مرتبطًا بالنشاط الإيراني في المنطقة، لكنّ طهران صدت المحاولة.

تبنّى الفريق التفاوضي الإيراني منذ لحظة تولّي نائب وزير الخارجية علي باقري كني قيادة المحادثات استراتيجية مختلفة عن تلك التي كانت سائدة في زمن الفريق السابق. ولعلّها استراتيجية فيها من شخصية حكومة رئيسي في ابتعادها عن الإعلام والشرح التفصيلي لما يحدث خلف الأبواب المغلقة.

القاعدة الأساسية أنّ ما يهم الناس هو نتيجة المفاوضات وليس تفاصيلها. هذا ما يكرره المتحدثون باسم الحكومة ومسؤولوها، رغم أنّ الواقع عندما يأتي الأمر للتسريبات مختلفٌ تمامًا.

وفي كل مرة تكون هناك جولة مفاوضات جديدة، كانت التوقعات والأسقف وأسباب الخلافات تملأ الصحف والمواقع وكلام المحللين الذي يحصلون على معلوماتهم من المصادر الحكومية. مشكلة حكومة رئيسي في المفاوضات كانت أنها كثيرًا ما تعيش هاجس المقارنة بين ما ستحققه هي وما جاءت به الحكومة السابقة، وهذا بدا صارخًا في المقارنة التي جرت في مجلس الأمن القومي بشأن الفارق بين ما كان قد توصل إليه المفاوض السابق عباس عراقتشي والاتفاق الذي يفاوض عليه باقري كني مع الأميركيين والأوروبيين.

التطبيع مع المحيط يحتاج للدفعة التي يمكن أن تعطيها المفاوضات النووية

عندما تولّى رئيسي موقعه، تعهّد بشكل واضح بأن يسعى لرفع العقوبات عن إيران، ولكنه أكد أيضًا أنه لن يربط مصير شعبه بالأجانب. من هنا يمكن الانطلاق لفهم الاستراتيجية التي اتبعها الرئيس الإيراني منذ يومه الأول في الحكم. المسألة ليست علاقات أفضل مع الغرب، الأصل هو الفوائد الاقتصادية. هنا يتوقف رئيسي جديًا أمام الثمن الذي يمكن أن يدفعه لقاء الاتفاق ولقاء التنازل عن التقدم الذي أحرزته بلاده في برنامجها النووي.

إذا ما عدنا أمتارًا عدة الى الخلف لرؤية الصورة الأكبر، سنجد طهران حكمًا تقرأ الكتاب النووي في عهد رئيسي على شيخ واحد. رسم آية الله خامنئي خريطة طريق للتفاوض منذ اليوم الأول للتواصل مع واشنطن في عمان قبل عقد من الزمن. المطلوب اتفاق جيّد رغم إيمان خامنئي بأنّ الولايات المتحدة لن تقدم الضمانات المطلوبة وبأنّ القاعدة ستبقى: “الثقة بالغرب لا تنفع”.

والثقة في قاموس الإيرانيين مفردة لا تأتي دفعة واحدة، بل تُجمع حرفًا حرفًا لتكتمل، وبعدها يصبح ممكنًا استخدامها. تجربة بناء الثقة خلال رئاسة روحاني ومفاوضات وزير خارجيته محمد جواد ظريف مع الأميركيين، ولاحقاً انسحاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من المفاوضات، دفعت خامنئي للتأكيد أنّ الثقة ليست أمراً مطروحًا في العلاقة مع واشنطن، وأنّ المفاوضات باختصار ليس هدفها فتح طريق لعلاقة أفضل بين بلدين تجمعهما الخصومة منذ اكثر من أربعة عقود، بل إقفال باب للضغط رفع من منسوب العداوة وسمح لطهران من حيث تدري أو لا تدري بايصال برنامجها النووي المثير للجدل إلى العتبة النووية.

عام نووي على رئاسة رئيسي، الاتفاق أصبح أقرب بكثير مما كان عليه سابقًا، لكن من دون ضمانات حقيقية بالتزام الولايات المتحدة به، بينما إيران في وضعية أكثر إحراجاً للولايات المتحدة والقوى الدولية، ومخزونها من اليورانيوم المخصّب بنسبة 60% بات كافيًا لصناعة أول قنبلة ذرية إيرانية.

لا ثقة ولا ضمانات تحفظ لأي من الأطراف مصالحهم، اللهم إلا النية بالاستمرار حتى ولو على قاعدة خاسر – خاسر، وهي القاعدة التي تبقى نسبية إذا ما جرت مقاربتها من زاوية نظر رئيسي الذي لا يريد الاتفاق لمجرّد الاتفاق، بل للتأسيس لإرث اقتصادي واجتماعي وسياسي يضعه بعد حين من الزمن في مصاف من أنقذوا بلادهم من الأزمات، وهذا كفيلٌ بجعل الطريق أمامه ممهَّدًا للقيادة، لكنّ إيران تبقى دوماً بلدًا لا يملّ المفاجآت.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: