الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة9 يوليو 2022 21:04
للمشاركة:

النار في الثقافة الإيرانية.. نقاء وقداسة منذ قدم الزمان

ليست النار سوى كائن رمزي حي منفرد، ثم أنها مع ذلك تفصح عن لغة فريدة تحمل الكثير من العلامات والتعابير التي تقول لنا أشياء كثيرة، كانت قد ضجت بها أمم مختلفة، وفي النار نعم ونغم كثيرة. وهي مقدسة عند بعض الأمم، خصوصًا عند الإيرانيين، إذ يرتبط تقديسهم للنار مع تقاليدهم الراسخة منذ قدم الزمان.

وتشيع بين عامة الناس ثقافة تذهب إلى القول إن الإيرانيين “المجوس” يعبدون النار، وهو قول ناتج عن فهم قاصر لمنزلة النار في الثقافة الإيرانية، ولا يخلوا من الخطأ والالتباس. فقد كتب المترجم الدكتور أحمد موسى في مقال له: “تقاليد وعادات أي أمة من الأمم هي مجموعة من السلوكيات الدينية وغير الدينية لجماعة من الناس تجمع بينهم مشتركات دينية وقومية ووطنية قائمة على مرتكزات فكرية ومعتقدات دينية مشتركة. واليوم، ما تبقى من إرث ثقافي قديم خاص بالديانة الزرادشتية في إيران يحظى بمكانة لائقة وهامة بين الأوساط الشعبية المختلفة في هذا البلد ذي الهويات المتشابكة والمتداخلة، دينيًا وإثنيًا وثقافيًا.” وهذا الأمر يتعلق بمسألة تقديس النار عند الإيرانيين واعتبارها رمزًا للطهارة والنقاء.

النار هي أحد العناصر الطبيعية التي قدسها الإيرانيون القدامى واهتموا بها، وتعرف في اللغة الفارسية بلفظة “آتش” وقد ذكرت في كتاب الأفستا عند الزرادشتيين باسم “أتار” إلى جانب الماء “أتان” باعتبارها من عناصر الطهارة، وباعتبارها رمزًا من رموز إلههم “أهورامزدا”. والنار والماء يرتبطان دومًا في تاريخ إيران وحاضرها، ولا يزال الاهتمام بهما؛ حيث يتجلى ذلك كما نرى في حديقة في شمال طهران باسم “بارك آب وأتش” أي حديقة الماء والنار، ومفهوم تشييدها مقتبس من الثقافة الإسلامية، وبناء على قصة النبي إبراهيم ودعائه في أن يجعل الله النار بردًا وسلامًا عليه كما ورد ذكره في القرآن.

ويعتقد الزرادشتيون بأن النار معجزة من معجزات الإله “أهورامزدا” ومن دونها لا تكون هناك حياة على الأرض لذلك هم يقدسونها ويعظمون منزلتها، ولكنهم لا يعبدونها ولا يعدونها صورة من صور الإله، بل أن تقديسها قائم على أساس أنها معجزة وآية إلهية.

وقد نقل لنا الدكتور بشار حلوم عن الوثائق المحفوظة في معبد الزرادشتيين في يزد ما نصه أن الزرادشتيين يعتقدون باحترام وقداسة عناصر الطبيعة الأربعة (النار – الماء – الهواء – التراب) ويحرّمون تلوثها. ولكن مع مرور الزمن، تعرضت العناصر الثلاثة (الماء – التراب – الهواء) للأذى والتلوث نوعًا ما بشكل أو بآخر، بينما بقيت النار طاهرة مُطهِّرَةً نقية لا تتلوّث أبدًا.

وقد جاء في كتاب الشاهنامة ملحمة الفرس الكبرى التي ألفها أبو القاسم الفردوسي في إحياء تراث الفرس وتذكيرهم بأمجادهم، ما خص الحديث عن موضوع اكتشاف النار وسبب تقديسها عند الايرانيين.
وننقل هنا هذا النص الذي ورد في مقدمة الشاهنامة، حسب ترجمة سمير مالطي (ط ١٩٧٧):
“ذات يوم بينما كان أوشهنج على سفح أحد الجبال، ظهرت له أفعى، عيناها كبرك من الدم، ولهيبها دخان أسود يغطي العالم بدكنته، فأخذ حجرًا، ورماه بها لدرء خطرها، فاصطدم الحجر من قوة الضربة بصخور الجبل، وأحدث باصطدامه شعلة متوهجة، فأفلتت الحية وكانت النار”.

ويحكي الفردوسي هنا قصة اكتشاف النار على يد الملك أوشهنج ابن سيامك، وهذه القصة تشبه إلى حد ما الأسطورة الإندونيسية التي تحكي عن حرب دارت بين الماء والنار، هزمت فيها النار وفرت واختبأت في شجرة بامبو، وخرجت عندما احتكت الحجارة بالشجرة ذات يوم. والأمر في الواقع ليس إلا وصفًا أدبيًا لمسألة علمية فيزيائية تتعلق بتولد الكهرباء (شحنة كهربائية ساكنة) الذي ينتج عادة من احتكاك حجرين أو جسمين معدنيين.
يقول الفردوسي في الشاهنامة في الموضع نفسه أن أوشهنج قد سر باكتشافه للنار وأخذها قبلة، وهذا هو سبب تعظيم النار عند الفرس.

وليس من الغريب أن نعلم أن هناك ما يقارب الـ167 معبدًا للنار في العالم معظمها في الهند، والبلاد القريبة منها، وتوجد في إيران معابد كثيرة للنار ولا يزال بعضها معمورًا، وقد ازدهر بناء هذه المعابد في الفترة الساسانية، وهناك واحد في مدينة يزد وهو أشهر وأكبر معبد للزرادشتيين، ويسمونه بيت النار أو معبد النار، بالفارسية (آتشكده آتش ورهرام) أو دار مهر، وهو المكان الذي يؤدي فيه الزرادشتيون طقوسهم الدينية، حيث يشعلون فيه النار بإناء معدني خاص. وتعد مدينة يزد الواقعة وسط إيران، عاصمة للزرادشتيين، حتى أن اسمها يعني الأرض المقدسة أو مدينة الله.

واشتهر الزرادشتيون ببناء معابد للنار، إذ بني هذا المعبد المذكور في يزد سنة 1353 للهجرة، وسط حديقة كبيرة تغطيها الأشجار، وعند الضلع الجنوبي للمدخل ثمة حوض ماء ترى فيه انعكاس صورة أعمدة البناء الحجرية. والغرفة الخاصة للنار تقع وسط المبنى وفي داخلها مُجَمّرة يُشعَل فيها النار بعيدة عن أشعة الشمس والرياح والامطار. وصمم محيط المعبد وجوانبه ليكون مكانًا للصلاة والعبادة والتضرع. أما تصميم بنائها فيقترب من بناء معبد نار بارسيان في الهند وكأن أحدهما اقتبس من الآخر.

وحسب ما ينقلونه بأن قدم النار المشتعلة في هذا المعبد تعود إلى ما يقارب 1515 سنة وهي قبل نار “ناهيد بارس”، وهذه النار تنقلت بين عدة معابد، ولا زالت النار مشتعلة حتى الآن. وهناك معبد آخر في يزد هو أكثر قداسة يسمونه معبد “چكچكو”.

وفي عيد النوروز الذي يبدأ في شهر فروردين حسب التقويم الشمسي والذي يوافق يوم ٢١ آذار/ مارس بالتقويم الميلادي وهو يمثل بداية العام الجديد ودخول الربيع، يحتفل الإيرانيون في هذا اليوم الجديد ويقومون بإشعال النار كمظهر من مظاهر النور الإلهي وأفضليته على الظلام، وبذلك يودعون النارَ أمراضهم ومتاعبهم وقلقهم، وينطلقون لاستقبال العام الجديد براحة بال وسرور وحبور.

كما يعتقد الإيرانيون أنهم بإشعالهم للنار يطهّرون البيت من الموجودات الضارة ومن الخبائث وكل ما يتصل بالشيطان. ولكي لا تتلوث هذه النار فإنهم يلقون برمادها بعيداً عن البيوت، في الطرقات ليحملها الريح أو في السواقي والجداول المائية ليبيدها الماء، لأن رمادها يعتبر نجسًا ومحملًا بالآلام والذنوب والآفات.

وحسب التقاليد الإيرانية القديمة المتوارثة، يتم مساء آخر يوم أربعاء في السنة الإيرانية بإشعال نيران كبيرة يُحتفظ بها متقدة متوهجة حتى طلوع شمس اليوم التالي، وخلال مدة اشتعالها يقفز الناس عليها ويطوفون من حولها وهم ينشدون أهازيج، ويرددون على الخصوص هذه العبارة “زردى من از تو، سرخي تو از من” (صفرتي إليك، وحمرتك إلي).

وهذه الكلمات ترمز إلى مراسيم التطهير الدينية، كما تلخّص ذلك كلمة “سرخى” بمعنى “الحمرة”. بتعبير آخر، فالناس بإقامة هذا الاحتفال يسألون النار أن تُذهب عنهم جميع الأمراض والمشاكل والقلاقل (دلالة اللون الأصفر)، وأن تمنحهم بالمقابل الدفء والحرارة والقوة (دلالة اللون الأحمر).

ويسمى هذا الاحتفال بالقفز على النار، بالفارسية “چهار شنبه سورى” ويتضّح من خلال فلسفة هذا الاحتفال ارتباطه بمعتقدات الإيرانيين القديمة التي تعود إلى مرحلة ما قبل الإسلام؛ وهو ما يتبيّن أيضاً في احتفاء الأقليات الزرادشتية على مرّ التاريخ بهذا العيد، وحرصها على إقامة مراسيمه بكل تفاصيلها. لكن “أربعاء النار” هذا لم يعد اليوم مقتصرًا على الزرادشتيين، بل اتخذ صبغة وطنية وقومية تعدّت حاجز الدين والمذهب، حتى أنه تمارسه شعوب أخرى كالكردية والطاجيكية والأوزباكستانية والقرقيزية.

فالنار عند الايرانيين تحمل الكثير من الرموز الثقافية الموغلة في القدم، وتشير إلى قوة أمة حافظت على تراثها ومورثها العقائدي، كما يضيف تقديس الإيرانيين للنار خطوة إلى تقديس تراثهم وثقافتهم القديمة التي لم يتخلوا عنها.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: