الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة9 مارس 2022 09:00
للمشاركة:

الحرب الروسية- الأوكرانية في قلب طهران

صباحًا، يقف علي وهو في طريقه إلى عمله في شارع "جمهورى اسلامي" وسط طهران أمام كشك الصحف، يقرأ عنوان صحيفة "اعتماد" الإصلاحية فوق صورة تصدرت الصفحة الأولى للدمار في أوكرانيا: "عنف روسيا وصمود أوكرانيا"، وعنوان صحيفة "جمهورى اسلامي": "المقاومة الشعبية والجيش في أوكرانيا يواجهون المعتدين الروس".

ويتابع علي مستطلعًا عنوان صحيفة “جوان” المحافظة  المقربة من الحرس الثوري: “إظهار القدرة النووية في الحرب”، و يفتح صحيفة أخرى عنونت: “نزاع روسيا و أوكرانيا.. إيران مستعدة للوساطة لإعادة السلام”، وقبل أن يغرق في القراءة أباغته بالسؤال: “مع من تقف؟”، يصمت للحظات لا يقطعها إلا أصوات أبواق السيارات ثم يجيب: “أنا لست مع الحرب”، ويدفع لصاحب الكشك ويغيب في زحام المارة داخل شارع “جمهورى اسلامي”.

الحرب الروسية- الأوكرانية في قلب طهران 1

في العناوين أقرأ عن الدروس التي يرى الإيرانيون أنه يجب أخذها من الحرب الروسية الأوكرانية، دروس متناقضة، فكل فريق ينظر من الزاوية التي يريد، تعنون صحيفة “وطن امروز”المحافظة: “درس زيلينسكي.. كيف أدت طريقة الرئيس الأوكراني من خلال الانسياق وراء النظام العالمي والاعتماد على وعود الغرب إلى تدمير استقلال وسيادة أوكرانيا الوطنية”.

الحرب الروسية- الأوكرانية في قلب طهران 2

في المقابل تعنون صحيفة “آفتاب يزد” الإصلاحية: “درس زيلينسكي للسياسيين المدعين”، وتتساءل: “لماذا يسخر المحافظون من الرئيس الذي وقف إلى جانب شعبه؟!”.

الحرب الروسية- الأوكرانية في قلب طهران 3

انقسام واضح في الأراء، وإن كانت بعض العناوين تحاول مسك العصا من المنتصف كما يبدو الموقف الرسمي للبلاد، فتعنون صحيفة “فرهتغيان”: “لا للحرب ولا لتبرئة وتطهير الناتو”.

الحرب الروسية- الأوكرانية في قلب طهران 4

سفارات وأعلام وإعلام

أعيد النظر وأنا عند تقاطع “اسطنبول” وسط طهران إلى عمق شارع “جمهورى اسلامي” حيث غاب علي. يلفتني العلم الأوكراني يرفرف فوق ذلك الجدار الآجري المنتصب هنا منذ أواسط القرن التاسع عشر كسور للسفارة البريطانية.

شارع “جمهورى اسلامي” يفصل بينها و السفارة الروسيةالتي نشرت على حسابها على الانترنت قبل أيام صورًا قالت إنها وصلتها من إيرانيين يدعمون الجيش الروسي.

روسيا وبريطانيا والنازية

قبل أشهر فقط اثار جلوس السفيرين الروسي والبريطاني معًا في السفارة الروسية غضب الإيرانيين. فالصور الملتقطة حاكت ما عرف باسم “مؤتمر طهران“، الذي انعقد في الفترة من 28 تشرين الثاني/ نوفمبر إلى 1 كانون الأول/ ديسمبر من عام 1943، بين جوزيف ستالين وفرانكلين د. روزفلت، وونستون تشرشل، بهدف فتح جبهة جديدة ضد النازية.

وهذه مفارقة أخرى، فروسيا وبريطانيا اللتان اتحدتا في ذلك الوقت ضد النازية تقفان اليوم على طرفي نقيض. لندن ترى في بوتين “هيتلرًا جديدًا” وبوتين يرى في حكومة زيلينسكي نازية جديدة.

تبع الحادثة وضع سفير روسيا اكليلا من الزهور على قبر “ألكسندر غريبايدوف” بمناسبة يوم الدبلوماسي الروسي مهندس معاهدة “تركمانتشاي” بين الإمبراطورية الروسية والدولة القاجارية والتي أنهت الحرب الروسية – الفارسية 1826-1828، وتنازلت الدولة القاجارية بموجبها عن إقليمي “إيروان” و”نخجوان”، لصالح روسيا، و منحت موسكو تعويضات ضخمة وامتيازات عديدة. حادثة جاءت كالملح على جرح الحادثة التي سبقتها.

روسيا وإيران.. سيرورة التاريخ

تزخر الذاكرة الشعبية الإيرانية بالكثير من انعدام الثقة تجاه روسيا، فمحاولات بنائها طوال الأعوام القليلة الماضية من قبل طهران وتكرار المسؤولين الإيرانيين القول بإن “روسيا اليوم “ليست” الاتحاد السوفياتي السابق”، ما تزال لا تطرب كثيرًا من الإيرانيين. رغم ذلك يقول السفير الإيراني في موسكو كاظم جلالي في ندوة عقدت مؤخرًا حول التطورات الروسية – الأوكرانية: “يتم الحكم على العلاقات الإيرانية – الروسية استنادًا إلى التاريخ، وهذا أمر يجب إصلاحه في إيران. يجب ألا نبقى عالقين في التاريخ وأن ننظر إلى اليوم”.

الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي كان من أوائل من اتصل بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا. ونقل بيان الرئاسة الإيرانية عن رئيسي قوله: “إن توسع الناتو شرقًا يشكل تهديدًا خطيرًا لاستقرار وأمن الدول المستقلة، وإنه يأمل أن تصب الاحداث الجارية إلى مصلحة الشعوب في المنطقة”.

هذا التصريح أثار في الداخل الإيراني قبل الخارج عاصفة من الانتقادات، سعت طهران للتخفيف منها بتوضيحات متكررة تؤكد رفض طهران الحرب كحل في أوكرانيا وغيرها، بل وحتى إبداء الاستعداد للوساطة. فأعلن وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبد اللهيان دعم بلاده جهود تركيا للجمع بين وزيري خارجية روسيا و أوكرانيا في أنطاليا.

الحرب الروسية- الأوكرانية في قلب طهران 5

الحرب الروسية- الأوكرانية وسم يتصدر في إيران

وبين ذهنية تاريخية شعبية مسبقة عن روسيا وواقع تفرضه المقاومة الأوكرانية على الأرض من جهة، وعلاقات إستراتيجية يريدها النظام في إيران مع روسيا في إطار إستراتيجية “التوجه شرقًا” من جهة أخرى، يبدو الانقسام في الأراء في إيران واضحًا. انقسام لا تكشفه الصحافة الإيرانية فقط، بل تعريه وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا.

فرغم انشغالهم بقضاياهم وأهمه االملف النووي، لم يمنع ذلك الإيرانيين من الدفع بوسم “#الحرب_الروسية_الأوكرانية” إلى التصدر على تويتر وغيره من المنصات لأيام. آراء كثيرة ونقاشات محتدمة لا تختلف عن واقع الصحافة المنقسمة بين الإصلاحيين والمحافظين.

يقول هادي محمدي الصحفي المتخصص بالعلاقات الدولية: “هذا واقع الحال في إيران بالنسبة للصحافة ومواقع التواصل حيال معظم الملفات تذهب الأمور باتجاه فريقين”.

أما أمين سر المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران علي شمخاني فيقول في تغريدة على تويتر: “انهيارالأسواق المالية والارتفاع الحاد في أسعار الطاقة بسبب الأزمة المندلعة في أقصى شرق أوروبا، أظهر أن عدم الاستقرار وانعدام الأمن بجميع أشكاله في نصف الكرة الشرقي سيلحق أضرارًا جسيمة بالمصالح الغربية. يمكن أن تكون أزمة أوكرانيا عبرة”. وهنا، ينتقد مستشار الوفد الإيراني المفاوض في فيينا د.محمد مرندي في تغريدة استخدام ورقة العقوبات من قبل الدول الغربية: “من خلال فرض عقوبات غير قانونية على إيران وفنزويلا، أضرت أنظمة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالاقتصاد العالمي ومصالحهما الوطنية. من خلال استهداف المواطنين الإيرانيين والفنزويليين، أساؤوا إلى أنفسهم”. هكذا تذكر إيران بضرورة رفع العقوبات عنها وهكذا، مع ارتفاع أسعار النفط عالميا تكون انعكاسات نتائج الحرب الروسية الأوكرانية في صالحها ربما.

لكن المنتقدين يقولون أيضًا: “إن توسع الناتو شرقًا لايمكن أن يكون ذريعة للاعتداء على دولة وإلحاقها غصبًا بمعسكر الشرق، الشعب الأوكراني هو عليه أن يختار بحرية الغرب أو روسيا أو الحيادية. صحيح أن الناتو كان يجب حله بعد انتهاء معاهدة وارسو، لكن لم يتم ذلك، والأفضل أن يكون لدى الشرق أو الدول الإسلامية حلف شبيه أو ناتو إسلامي”، هذا ما غرد به علي مطهري نائب رئيس البرلمان الإيراني سابقًا في تغريدات له على تويتر.

الحرب الروسية- الأوكرانية في قلب طهران 6

و فيما يذهب الرئيس الأسبق محمود احمدي نجاد للتعبير بشعبوية مقارنة بالمواقف الإيرانية المختلفة بدعوة بوتين إلى إيقاف “الحرب الشيطانية وإلا فإنه لن يحصد إلا الندم،”، ينغمس آخرون بتحليل موقف روسيا الأخير من المفاوضات النووية والذي ربط بين الحرب الروسية – الأوكرانية ومفاوضات فيينا بعد مطالبة وزير الخاريجة الروسي سيرغي لافروف واشنطن بضمانات مكتوبة بأن العقوبات على روسيا لن تؤثر على تعاون إيران وروسيا.

موقف روسي خلط الأوراق في الدقيقة الأخيرة على طاولة مفاوضات فيينا، وقوبل بصمت رسمي إيراني في البداية بل وحذر أيضًا، حتى أن وسائل الإعلام الإيرانية نفت صحة تصريحات نقلتها رويترز عن مسؤول إيراني رفيع قال فيها إن التصريحات الروسية لا تصب في صالح مفاوضات فيينا النووية. بعدها تصاعد انعدام الثقة بروسيا أكثر خاصة من قبل التيار الاصلاحي.

يقول المستشار السابق في الرئاسة الايرانية حميد أبو طالبي في تغريدة له: “لا يمكن لإيران أن تتحمل وزر الخطأ الإستراتيجي لروسيا بمهاجمة أوكرانيا ويجب ألا تفعل ذلك، لتفادي الوقوع في الفخ الروسي يجب تعزيز التوازن الإستراتيجي من خلال المفاوضات المباشرة مع أميركا لسد الطريق على لعبة روسيا الخطرة”. وفيما تؤكد حكومة إبراهيم رئيسي على “التوازن في السياسة الخارجية” يقول أبو طالبي: “إن التشدد في التوجه شرقًا خلال العامين الماضيين في إيران أفقد سياستها الخارجية توازنها”.

لكن ما لبثت أن عادت الأمور الى مجاريها و لو نسبيًا، خاصة بعد تصريح السفير الروسي لدى طهران لوكالة تسنيم واعترافه بأن مطالبة موسكو واشنطن بضمانات مكتوبة من واشنطن كي لا يؤثر ذلك على تعاونها مع طهران تسبب بسوء فهم، و الذي تبعه اتصال هاتفي بين وزيري الخارجية الإيرانية والروسية قالا فيه إن احياء الاتفاق النووي يجب أن يضمن تمتع جميع المشاركين فيه بحقوق متساوية فيما يتعلق بتطوير التعاون دون عوائق في جميع المجالات، كما نقلت الخارجية الايرانية في بيانها عن عبد اللهيان قوله في الاتصال إن إيران تؤكد أن تعاونها مع أي دولة من بينها روسيا لا ينبغي أن يتأثر بالعقوبات.

وكالة انباء نور نيوز المقربة من المجلس الأعلى للأمن القومي الايراني وتزامنًا مع تواجد كبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري كني في طهران للتشاور، أعادت دفة مفاوضات فيينا إلى مجراها وحاولت ضبط إيقاع التطورات الجديدة بالقول: إن بطء مفاوضات فيينا هو بسبب تأخر الولايات المتحدة في اتخاذ قرار سياسي بشأن القضايا المتبقية لكن طلب روسيا بات موضوعًا جديدًا أيضًا. والأيام المقبلة ستظهر إذا كانت المحادثات التي تواجه عقبات أميركية ستصل إلى مرحلة النظر بالطلب الروسي أم لا؟

رغم ذلك، بقي الحذر في طهران من أي تبعات للحرب الروسية على أوكرانيا واضحًا. ويقول حامد هاديان في تغريدة له مرفقة بصورة من أمام السفارة الأوكرانية في طهران التي وضعت كغيرها دعوات للتطوع لمحاربة الجيش الروسي في لوحة إعلاناتها: “بعد رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية التي لم يتم الرد عليها للسؤال عن إمكانية السفر كصحافيين إلى أوكرانيا. ذهبت إلى السفارة الواقعة في مبنى أبيض اللون مؤلف من خمسة طوابق عليه جنديان نفد صبرهما يمسكان بالهراوات أمامه. قالوا إنه لا يحق لأحد الوقوف هنا. كنت أرغب في إلقاء نظرة على لوحة الإعلانات، لكنهم لم يسمحوا لي بذلك. لم يستطيعوا الكلام. تحدثت إلى رئيسهم، وقال، “إذا لم تلتقط صورة، انتظر”. وطلب مني التنسيق عبر الهاتف أولًا. كان هناك العديد من عناوين الإنترنت على السبورة للحصول على معلومات ومساعدة الشعب الأوكراني”.

إيران تراقب أوكرانيا بعين و بأخرى ترقب فيينا

تفرض التطورات القادمة من أوروبا نفسها على الإيرانيين، يراقبون أوكرانيا بعين وبأخرى يرقبون فيينا. فنتائج الحرب في الأولى سترسم مشهدًا عالميًا جديدًا ربما بلادهم معنية به تمامًا، ونتائج المفاوضات في الثانية، خاصة في ظل الموقف الروسي الأخير الذي يحاول الربط بين الملفين الأوكراني والنووي، ستحدد مصير اقتصادهم و علاقات بلادهم الخارجية.

هو الانتظار إذًا، انتظار لن يتمكنوا خلاله من متابعة مسلسل “خادم الشعب”، بعد حذفه في خضم الحرب المستعرة في الميدان في أوكرانيا وفي الأفكار والتحليلات في إيران وكل مكان من منصات إيرانية كانت قد عرضته سابقًا. انتظار يأملون بعده، وحالهم حال علي في شارع “جمهورى اسلامي”، يسرعون الخطى إلى أعمالهم كل يوم بحثًا عن لقمة العيش، على أمل الوصول إلى الانفراجة الاقتصادية والمعيشية المنتظرة.

الحرب الروسية- الأوكرانية في قلب طهران 7
جاده ايران تلغرام
للمشاركة: