الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة4 مارس 2022 19:35
للمشاركة:

الاتفاق النووي يترنح على أنغام الأزمة الأوكرانية

لم تخيّم ظلال الأزمة الأوكرانية على تغطية وسائل الإعلام العربية والعالمية فحسب، بل انسحبت هذه الظلال على الصحف ووسائل الإعلام الإيرانية. أتصفح عناوين الصحف الإيرانية الصادرة اليوم لأكتشف عمق الانقسام الحاصل بين الإيرانيين حول الأزمة الأوكرانية بين من يصفها بالغزو الروسي وبين من ينظر إليها كحالة حتمية في مواجهة الناتو المعتدي.

في الزوايا الجانبية تتطرق هذه الصحف لموضوع مفاوضات فيينا، وتأتي هذه التغطية نتيجة عودة كبير المفاوضين الإيرانيين باقري كني، مطلع الأسبوع الحالي إلى فيينا بعد قضاء نحو أربعة أيام في طهران، لمواصلة الجولة الثامنة من المفاوضات. أجرى “كني” العديد من الاجتماعات وعلى كافة المستويات للحصول على تفويض سياسي لإقرار اتفاق في فيينا. وعلى ما يبدو فإن الجلسات خلف الأبواب المغلقة في البرلمان الإيراني والمجلس الأعلى للأمن القومي، تتفق فيما بينها على الخطوط العريضة لحجم التنازلات والمطالبات الإيرانية للوصول إلى اتفاق.

بعيداً عن مصادر المعرفة والرأي التقليدية (صحف وتلفزيون) يشهد الشارع الإيراني نقاشاً حاداً حول فاعلية المفاوضات وجدواها في هذا التوقيت بالذات. فعلى تطبيق “كلاب هاوس” الذي يحظى بمتابعة جيدة في أوساط النخب الإيرانية، يحتد النقاش حول فاعلية المفاوضات وأثرها على حياة المواطن العادي. بينما تحولت منصة تويتر لساحة تجاذب واستقطاب غير مسبوقة بين من يؤيد الاتفاق مع الغرب وبين من يرفضه.

القارئ المتمعن في المواقف المختلفة سيجد بأن نوع معارضة الاتفاق مع الولايات المتحدة في العام 2022 تختلف جذرياً عما كانت عليه في العام 2015 وما قبلها. الخلاف في 2015 وما قبلها كان خلاف أجنحة بين الإصلاحيين والمعتدلين أصحاب مشروع الاتفاق وبين الأصوليين المخالفين للاتفاق. أما الخلاف في 2022 فهو داخل المعسر الأصولي المسيطر على مفاصل الحكم. حيث يؤكد المخالفون من الأصوليين على أنهم لا يعارضون المفاوضات (حتى المباشرة منها) أبداً ولكنهم يرون بأنها غير مجدية في الوقت الحالي. ويسوق هؤلاء حججهم المرتبطة بالواقعية السياسية كالتالي:

  • أولا: لا ترغب الولايات المتحدة التخلي عن عدائها للأمة الإيرانية فهي تمارس ضغوطاً اقتصادية منذ أربعين عاماً ضد الشعب الإيراني. كما لا يمكن الوثوق بحسن نية الولايات المتحدة تجاه إيران، نظراً لإن أميركا لم تتفاعل مع الأزمة الإنسانية التي خلفتها جائحة كورونا، بينما كانت إيران في أمس الحاجة لأصولها المجمدة في الخارج لتأمين الدواء والمعدات الطبية. ويعزز هؤلاء من موقفهم بالاستناد إلى نظرية “صراع الحضارات” لهينتنغتون ويدللون على الإحساس بالتفوق الحضاري من خلال الأمثلة الحيّة التي نشاهدها يومياً خلال تغطية الأزمة الأوكرانية بين تقسيم العالم إلى نحن (البيض المتحضرون) وهم (الملونون المتخلفون).
  • ثانياً: يستند الإيرانيون إلى ذاكرتهم التاريخية، ويجرون مقارنة بين السلوك السياسي لباراك أوباما (عرّاب الاتفاق النووي لعام 2015) وبين سلوك إدارة ترامب وبين سلوك الإدارة الحالية. يؤكد المخالفون بأنّ الخلاف مع إيران لا يتعلق بالمشروع النووي بقدر تعلقه بالأمة الإيرانية وماهيتها. فكل الإدارات الديمقراطية والجمهورية تتفق فيما بينها على ضرورة تحويل إيران إلى دولة “هجينة” فاقدة لعناصر القوة. الخلاف فيما بينهم هو حول الطريقة، فأوباما وبايدن ينظران إلى الاتفاق النووي كخطوة أولى نحو تهجين إيران ونزع عناصر قوتها الردعية بينما يعتمد ترامب على سياسة الضغط بالحد الأقصى لإجبار الشارع على اسقاط النظام.
  • ثالثاً: تقارن مجموعة من النخب الإيرانية بين مستويات العقوبات المفروضة على كل من إيران (التي لا تملك سلاحاً نوويا) وبين كوريا الشمالية النووية. تقبع طهران على رأس هرم العقوبات الأميركية بواقع 1800 نوع من أنواع العقوبات بينما تقبع كوريا الشمالية في المركز الرابع بواقع 414 عقوبة اقتصادية. ويتم التأكيد على أن امتلاك سلاح نووي أو حتى الوصول إلى العتبة النووية يُحصن إيران من الحصار الاقتصادي.
  • رابعاً: لقد جاءت الأزمة الأوكرانية كمعزز لرأي هذا الفريق فهم يشيرون إلى تخلي أوكرانيا عن الأسلحة النووية التي خلّفها الاتحاد السوفيتي في أوكرانيا بعد انهياره. فهم يرون بأنّ السلاح النووي كان قوة رادعة تمنع روسيا من التفكير في غزو أوكرانيا. ولكن الولايات المتحدة (الشريك غير الموثوق) أجبر أوكرانيا على التخلي عن سلاحها النووي وقدم لها ضمانات بعدم التعرض لها. وعندما هاجمت روسيا أوكرانيا وقفت الولايات المتحدة موقف المتفرج على ما يحدث. سعيد جليلي عضو المجلس الأعلى للأمن القومي والمعارض الدائم للاتفاق النووي يقول في تغريدة عقب اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي مع باقري كني: “لا يجب علينا الدفع مقابل اكتساب الخبرة؛ اليوم، يعترف أكثر الناس تفاؤلاً في الولايات المتحدة بأنه لم يعد من الممكن الوثوق بهم”.
  • خامساً: يقسم هؤلاء العقوبات إلى نوعين: 1) عقوبات مؤثرة على قطاع النفط 2) عقوبات جانبية تطال بعض الأفراد والشركات الخاصة. يقول الأصوليون المعارضون للاتفاق، بأن العقوبات المؤثرة قد تم تجاوزها من خلال الالتفاف على العقوبات. وتتضمن عملية الالتفاف هذه: نقل النفط من سفينة إلى سفينة، وإطفاء رادارات ناقلات النفط في المياه الدولية، ورفع مستوى تصدير النفط إلى الصين…إلخ. وبحسب الأخبار التي ترد من مصادر غير رسمية فإن إيران تصدر يومياً ما يقارب 1.5 مليون برميل نفط.

في الإطار العام، تبدو حجج المخالفين للاتفاق مع الولايات المتحدة في فيينا منطقية، لكنها لا تجيب على النقاط الجوهرية التي ستترتب على ترك طاولة المفاوضات. ولعل أهم هذه النقاط هي ماذا بعد الانسحاب من فيينا؟

إن الانسحاب من فيينا يعني عودة الملف الإيراني إلى قبة مجلس الأمن وهو يعني بالضرورة عودة ستة قرارات لمجلس الأمن تحت الفصل السابع. والجدير ذكره هنا، أن هذه القرارات الستة تندرج ضمن المادة (40) التي لا تتضمن الخيارات العسكرية، لكن في الوقت ذاته لا يمكن التغافل عن أن هذه القرارات تعني التزام كل الأطراف بالعقوبات المفروضة على طهران بما في ذلك المعسكر الشرقي المتمثل بالصين وروسيا. الأمر الذي سيفاقم من معاناة الاقتصاد الإيراني، لا سيما في ظل تأثره الواضح بالعقوبات الجانبية (التي يصفها بعض الأصوليون بأنها غير فعّالة). حيث تفرض الولايات المتحدة هذه العقوبات تحت عنوان “قائمة الرعايا المعينين خصيصا والأشخاص المحظورين” (SDN)، وتندرج كثير من الشخصيات الإيرانية تحت هذا العنوان من العقوبات. وهذه الشخصيات بدورها تمتلك تأثيرًا على اقتصاد البلاد، وذلك بسب الدور الذي تلعبه سواءً على صعيد الحقيقي منه أو الموازي. ومما يدلل على أهمية إخراج هؤلاء من قائمة العقوبات هو إصرار الفريق الإيراني المفاوض على رفع العديد من هذه الاسماء من قائمة العقوبات الأميركية.

إلى جانب ما سبق، وعلى ضوء الأزمة التي نشبت بين روسيا والغرب، لا يُستبعد أن يؤدي الانسحاب من فيينا إلى جعل الملف النووي الإيراني ورقفة تفاوض بين واشنطن وموسكو.

ختاماً، هناك تيار واسع في إيران يرغب في التوصل إلى اتفاق ولكنه يربط التوصل إلى اتفاق بتحقيق الحد الأدنى من المقومات اللازمة للنجاح. تتمثل هذه المقومات بضمانة حقيقية بعدم الانسحاب مرة أخرى والتأكد من رفع العقوبات بشكل فعّال. التصريحات الصادرة من القادة الإيرانيين (الرئيس الإيراني، وزير الخارجية، رئيس البرلمان، كبير المفاوضين، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي) كلها ترسل رسائل إيجابية لإمكانية التوصل إلى اتفاق قريب، ولكن هذه التصريحات تتحفظ على الخطوط الحمراء. أما عن إمكانية انسحاب إيران من طاولة المفاوضات فهو يعني أنها ستقف أمام نقطة تاريخية في تحديد الخيارات المطروحة: فهي، إما ستتجه نحو صناعة القنبلة النووية أو نحو مزيد من التخصيب للوصول إلى العتبة النووية، وهذا يعني تصعيد غير مسبوق مع الولايات المتحدة لا يمكن التنبؤ بعواقبه.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: