الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة12 نوفمبر 2021 23:14
للمشاركة:

جواد غفاري.. بصمة إيران العسكرية في الحرب السورية

جدليٌّ ككل قصّة خطّتها الحرب السورية، يتموضع قائد القوات الإيرانية السابق في سورية، جواد غفاري بين عيون من أحبه كقائد لامع، وقاتل محتلّ في عيون من هم في المعسكر المواجه له. لكنّ حسابات الدول، ومعاييرها، غالبًا، هي التي تبقى حاضرة في نسج السرديات.

كان غفاري يرى الحرب في سورية، حربا “لضرب كل من يمكن أن يكون قويا ضد إسرائيل” وهو الذي نجى عدة مرات من غاراتها. تنتهي ولاية غفاري على وقع شائعات حول أسباب استبداله بضابط آخر رفيع في فيلق القدس التابع للحرس الثوري، أبو مهدي زاهدي.

لم يكن غفاري محبوبا من الجميع، وهذه طبيعة المحاربين أينما كانوا. وليس مستغربا أن تضغط جهة أو شخصيات لإبعاده عن المشهد. لكن ذلك لم يكن السبب في نهاية مهمته السورية والتي تمت منتصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، قبل أسبوع من الهجوم على قاعدة “الأمل” الأميركية على الحدود الأردنية العراقية السورية، وقبل أسابيع على زيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل ثاني.

تقول مصادر ايرانية رفيعة ل “جاده إيران” إن غفاري تجاوز المدة المسموحة لهذا النوع من المهمات في الحرس الثوري وهو “كان منذ سنتين يطلب نقله من سوريا”. لكن من هو هذا الجدلي الذي تربع على عرش المستشارين العسكريين الإيرانيين في سورية لسنوات؟

بين خوفين عبر عنهما مراراً، الأول على مقام السيدة زينب بنت علي في ريف دمشق الجنوبي، والثاني، من دعم نظام حكم بعثي، شق جواد غفاري طريق دخوله إلى سوريا مستشارا عسكريا ومقاتلا ميدانيا ضمن الفريق الأول الذي شكله سلفه العميد حسين همداني والذي قُتل في العام 2016 في حادث غامض في سورية.

بديهيٌّ، أن يخاف ضابط رفيع في الحرس الثوري الإيراني على مزار دينيّ، برمزية مقام السيدة زينب بالنسبة للمسلمين الشيعة. ومبرَّرٌ أن ينتابه القلق من دعم النظام السوري في بدايات معركة داخلية، لأسباب متصّلة بالوعي الإيراني الإسلامي المتحارب مع بعث صدام حسين، بمعزل عن العداء التاريخي بين البعثين السوري والعراقي. فالأهواز، مثلًا، في قناعة البعث هي أرض عربية لا إيرانية. ليس ذلك فحسب. فقد كانت الأشهر الأولى من الأزمة السورية محيّرةً ومبعث قلقٍ بالنسبة للإيرانيين ومن يمثّل توجهاتهم في المنطقة. هذه اللحظة تشبه غفاري أيضا. بين خوفين وتناقض. فرحت إيران لانتصارات الإخوان المسلمين في مصر، فلماذا ترفض ما فعله إخوان سوريا ومن كان معهم؟ خوف من أن يكون دعم النظام إجهاضا لحركة شعبيةٍ مشروعة، وخوف مناقض وأكبر، من أن يؤدي سقوط النظام السوري من دون أي مشروع سياسي واضح المعالم بالنسبة للحلف مع طهران، إلى انتكاسةٍ استراتيجية لطهران في سياساتها الاقليمية.

جواد غفاري، وكأي قائد عسكريٍّ له بصمته، أدار خوفه سريعًا نحو تطبيق سياسة بلاده.  أداره على نحوٍ جعله من أبرز الأسماء العسكرية في الإقليم، انطلاقا من الحرب السورية بتشعباتها الاقليمية. هكذا، بدأ غفاري أولى مهامه في سوريا في منطقة السيدة زينب، حيث يُنقل عنه أنّه عندما وصلت أخبار بوجود نيّة لمجموعات مسلحة سورية اقتحام المقام، تداعى غفاري وعدد من المستشارين في الحرس إلى هناك بالتنسيق مع الجيش السوري. كان “السيد جواد” من أبرز الأسماء التي أمّنت محيط المقام عسكريًا، قبل أن تمتدّ المهمّة هناك إلى: تنظيم اللجان الشعبية في تلك المنطقة، المشاركة في حماية الطريق مطار دمشق الدولي ومنطقة السيدة زينب.

كان ذلك وما تلاه في سنواتٍ ثلاث، تحت قيادة قائد القوات الإيرانية في سوريا آنذاك العميد همداني. وكان اسم غفاري متداولًا في أوساط عسكرية ضيقة بين دمشق وبيروت وطهران. ومّما أشرف عليه غفاري في تلك السنوات – وفق ما ينقل مصدر عرفه عن قرب خلال مرحلته في سوريا – تأسيس قوة “الدفاع الوطني” السورية، والمشاركة بفعالية في معارك ريف اللاذقية صيف 2013. كانت بمجملها سنوات قتالية خاضها غفاري كقيادي إيراني بارز في سوريا، إلى أن جاءت لحظة حلب.

خلال أحد الاجتماعات قال قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني إنه يجب فتح الطريق إلى مدينة حلب، وإعادة ربطها بالمدن السورية الأخرى. وسريعًا أوكل سليماني المهمة إلى غفاري، الذي طلب منه إعلانه قائدا عسكريا لهذه العملية، فكان له ذلك. بدأت المعركة مع مختلف الفصائل المسلّحة المعارضة للنظام السوري، من ريف السلمية ثم إلى أثريا وخناصر والنقارين، ومن هناك فتح الحرس الثوري والجيش السوري ومن قاتل معهما طريق أثريا خناصر، المؤدية إلى ريف حلب الجنوبي ومنه إلى الراموسة جنوب المدينة ومنها إلى حلب الغربية. بات للمدينة طريق إلى مطارها الدولي رغم أنّه كان طويلا جدا. بقي طريق أثريا – خناصر الذي فتحه غفاري 7 سنوات ممرا وحيدا نحو حلب من دمشق وما بعدها من مدن. كانت معركةّ غيرّت اتجاهات الحرب. ثبّت غفاري نفسه رقما عسكريًأ صعبا في حسابات معركة حلب، وبدأ بعد ذلك بتشكيل قوة عسكرية ضخمة قوامها المقاتلين من مختلف الفصائل المدعومة من إيران في لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان، إلى جانب الجيش السوري. اللافت، وفق ما ينقل عدد ممن عايشوا “حقبة” غفاري عن كثب، كانت قدرته على إنشاء علاقات متينة مع مختلف العشائر العربية الممتدة ديمغرافيا من دير الزور إلى حمص، ومن حمص إلى حلب. شكّل غفاري بالتعاون مع هذه العشائر قوة عسكرية ضخمة من حيث العديد ايضا.

عام 2015 طرأ معطى جوهري على الصراع في سوريا. ومن دون شرح كثير، لم يكن جواد غفاري، ولا سيما بعد تطور مهامه ومسؤولياته، من الذين ترغب روسيا بطريقة تعاملهم معها. كان يفضّل التعامل النديّ التنسيقي مع القوات الروسية وليس التعاون التبعيّ. يُروى عنه قصتان: الأولى حين اعترض وقلب الطاولة في أحد الاجتماعات المشتركة السورية الإيرانية الروسية، اعتراضا على تجاهل جنرال روسي كبير في كلمته شكر الجهات الحقيقية التي شاركت في معركة حلب. قال غفاري يومها للقائد الروسي: “المشكلة انكم تكذبون على قياداتكم كي تجنوا مصالح هنا مع شخصيات لم تشارك في الحرب. حلب تعرف من دافع عنها وهم: الحرس الجمهوري السوري، الحرس الثوري، حزب الله، الحيدريون العراقيون، والفاطميون الأفغان” وفق ما ينقل أحد المشاركين في الاجتماع. كان غفاري لا يلتزم دائما بالتنسيق مع الروس، ولم يكن دائما على موجة الاتفاقات التركية الروسية التي يستبعد فيها الطرفان الرأي الإيراني.

ومن أبرز الشواهد على ذلك ما حصل  نهاية عام 2016، مع اتفاق موسكو وأنقرة على إجلاء المسلّحين وعائلاتهم من أحياء حلب الشرقية. يومها أطلقت القوات الحليفة للنظام بأمر من غفاري النار على الحافلات التي تقلّ المسلّحين الخارجية نحو ريف حلب الغربي. قتل منهم تسعة مسلحين وكان للحادثة أثرها البالغ في عرقلة الاتفاق الروسي التركي قبل أن تتدخل جهات عليا في مختلف الدول المعنية، كي يعاود الجميع تنفيذ الاتفاق. كان امتعاض غفاري نابع من عدم تنفيذ اتفاق مفاده  إخراج حافلات من أهالي بلدتي كفريا والفوعة في ريف إدلب، تزامنا مع خروج مسلّحي الفصائل التي كانت تسيطر على أحياء حلب الشرقية. هذه الحادثة دفعت وسائل إعلام داعمة للمعارضة السورية إلى وصفه بـ”جزار حلب”، ربطًا أيضاً بدوره في عملية حصار الأحياء الشرقية للمدينة قبل استسلام مسلحيها.

وإذا كانت انتكاسة غفاري العسكرية قد ظهرت في حلب أيضا، عبر فشل أول هجوم قاده لفك الحصار عن بلدتي نبّل والزهراء في ريف حلب الشمالي، فإنّ شخصيات عسكرية سورية بارزة تحسب لغفاري “صموده مع عدد قليل من المقاتلين في محور حلب الشمالي لأيام، قبل أن تصل القوات المؤازرة. لقد منع غفاري سقوط حلب وسيطرة المجموعات المسلحة عليها”. بعد عام، فك غفاري وقواته الحصار عن نبل والزهراء،  وبات معروفا كقائد للقوات الإيرانية في سوريا، وكان على علاقة وثيقة بقائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني.

وبعد حلب، بدأت معارك عسكرية لا تقل شراسة، لكن ضد تنظيم “داعش”، إذ كان غفاري من أبرز القيادات العسكرية في معارك السيطرة على البادية السورية، امتدادا من تدمر ومحيطها إلى البوكمال ودير الزور والقائم، حيث باتت هذه المناطق من أبرز نقاط تمركز القوات التي يقودها الحرس الثوري في سوريا.

آخر المعارك التي كان مقررًا لغفاري أن يقودها إلى جانب سليماني هي  “سراقب – حلب”. لكن اغتيال سليماني مطلع عام 2020 في مطار بغداد منع ذلك. قال غفاري يومها إنها “خسارة لا تعوّض”. تولى غفاري المعركة لوحده، وكانت نقطة جديدة للاشتباك مع تركيا، ولإزعاج الاتفاقات الروسية التركية. سبقتها خطوة أخرى قادها غفاري بإشراك قوات من نبل والزهراء في معارك عفرين بمواجهة الجيش التركي وتحديدا في منطقة جنديرس، قبل أن يتم إرجاع القوات المشاركة إلى نقاطها بعد تدخلات رفيعة المستوى من طهران، وفق ما ينقل مصدر مطلّع، مضيفًا بأن “غفاري بسبب تدخله وقراره، منع تقدم القوات التركية إلى مناطق عديدة كانت تحت سيطرة قوات حماية الشعب الكردي كتل رفعت وغيرها في ريف حلب الشمالي”.

من غير المعروف حقا اين ستكون وجهة غفاري بعد سورية، تكهنات تشير إلى امكانية أن يتوجه إلى إيران ابتداء على أن تمهّد الأرضية لتوليه جزءا من الملف العراقي لسد فجوة عميقة في العلاقة بين طهران والفصائل الشيعية هناك، لكن هناك من يؤكد أن أقوى رجل في سورية لسنوات قد يكون في طريقه لتسلم مهمّة مفصلية في الحرس الثوري، وهناك، في تصورّاته على الأقل، مساحة جديدة لكتابة فصل جديد في كتاب سيبقى جدليا إلى أن يحسم قوي من الأقوياء مصير المنطقة.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: