الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة30 سبتمبر 2021 22:04
للمشاركة:

الاتفاق النووي 2015.. النهاية غير السعيدة

بعيدا عمّا عزّزه في صدع العلاقات الغربية - الغربية، مثّل اتفاق "أوكوس" بين أميركا وبريطانيا وأستراليا ما يمكن اعتباره إشارة واضحة، إلى أن دولًا كفرنسا تحتاج إلى تعديل تموضعها العالمي، وإعادة رسم المصالح مع الحلفاء والخصوم. ذهب الكثير من التحليلات إلى أن الاتفاق جزء من مواجهة الصين، وليس الإضرار بمصالح فرنسا التي لم تر فيه سوى منفعتها المالية، قبل أن يُسحبَ منها. أربعة من أطراف معادلة هذا الاتفاق، هم جزء أساسي ومباشر من المفاوضات حول الملف النووي الإيراني.

لذلك، لا يمكن لإيران سوى أن تنظر باهتمام إلى “أوكوس”، كجزء من سياقها التفاوضي المقبل مهما كان شكله وإطاره. في فترة ميلاد “أوكوس” كانت إيران تلدُ عضويتها ضمن دول منظمة “شنغهاي” للتعاون. الصورة لا تحتاج كثير شرح. إيران ترى نفسها في الفلك السياسي للشرق إلى جانب الصين، ولا تنظر لأميركا وبريطانيا أنهما قادرتان، بعد كل “التنكيل” السياسي والاقتصادي بها، على إكراهها لفعل ما لا تريد سياسيا.

“أوكوس” إشارة صلبة، لكنها ليست وحدها، بل الكثير من المؤشرات إيرانيًا وأميركيًا على وجه الخصوص، باتت تشي بأن اتفاق فيينا 2015 يحتضر. الاتفاق لا التفاوض.

المراوحة التي تحيط بالمفاوضات النووية ليست سوى شراء وقت، لإبقاء اتفاق 2015 النووي على أجهزة التنفس السياسية. لا معطى يؤكد أن العودة لتسوية فيينا ممكنة. حكومة إبراهيم رئيسي لا تقرأ الاتفاق من الزاوية التي كانت حكومة حسن روحاني تقرأ منها، ولا الدول الكبرى، وتحديدا الغربية منها، تقبل بالعودة للاتفاق نفسه، بسبب التطورات التي طرأت على البرنامج النووي الإيراني، وعلى نفوذ إيران الإقليمي. كذلك، فإن عام 2025 بات قريبا، وهو موعد انتهاء مجموعة من الإجراءات التي تقيّد البرنامج النووي، وهذا يعني بالضرورة، معادلة جديدة على الأرض وتاليًا على طاولة المفاوضات.

ماذا تريد إيران من المفاوضات؟

ثمة أهداف عامة نابعة من المصالح العليا الإيرانية، بمعزل عمّن يرأس الحكومة. وفي مقام متّصل، ثمّة أهداف للحكومة التي تتولى عملية التفاوض، من خلال وزارة الخارجية كما في حالة الحكومة السابقة، أو بشكل مشترك مع المجلس الأعلى للأمن القومي. يريد النظام السياسي من الاتفاق، بالدرجة الأولى، رفع العقوبات، بما يعنيه ذلك من انتعاشٍ اقتصادي ينعكس رفاهًا في حياة الإيرانيين، يخفف الاحتقان الداخلي، ويعين النظام على تحقيق أهدافه الاستراتيجية داخل الحدود وخارجها. يتضمن ذلك تعزيز نفوذه الإقليمي، وبناء شبكة أمان على مستوى المصالح الاقتصادية الكبرى، مع دول يتقاطع معها في الموقف من الولايات المتحدة والغرب.

في عهد روحاني، رغبت الحكومة بالرفاه الاقتصادي الذي يرنو إليه النظام، لكنها كانت تبحث عن شيء آخر: الاعتراف الغربي والخروج من بوتقة الدول المصنفة غربيا بالمارقة، وهذا شكّل هدفا رئيسا لحملة العلاقات العامة التي قادها وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف خلال سنوات عمله الثماني. اليوم، لا يبدو الاعتراف الغربي هماً حقيقيا لدى حكومة رئيسي، ما تريده هو ما يريده النظام حد التماهي، إضافة إلى أنها لا ترغب بالتورط عميقا مع إرث ثقيل للحكومة السابقة، وتفضّل أن تقدم نموذجا مختلفا لطريقة التفاوض والالتزام بالخطوط الحمراء المعلنة للقائد الأعلى آية الله علي خامنئي.

يريد النظام السياسي من الاتفاق، بالدرجة الأولى، رفع العقوبات، بما يعنيه ذلك من انتعاشٍ اقتصادي ينعكس رفاهًا في حياة الإيرانيين، يخفف الاحتقان الداخلي، ويعين النظام على تحقيق أهدافه الاستراتيجية داخل الحدود وخارجها.

ما تريده إيران مجتمعة من الاتفاق، بعد تجربة التراجع الأميركي عام 2018، هو تسوية تحمل ضمانات حقيقية بعدم انسحاب واشنطن مجددا. ولأن الظروف الأميركية الحالية تبدو أكثر تعقيدا من ظروف 2015، في ظل اقتراب الانتخابات النصفية الأميركية، تبدو الضمانات التي تصر عليها طهران هذه المرة محتاجةً لآلية معقدة بهدف التثبت عمليًا من رفع العقوبات، وهذا ليس مطروحا بالنسبة لإدارة بايدن.

تريد واشنطن من طهران التراجع عن خطوات التخفف من الالتزامات التي انطلقت في ربيع 2019، والتي تراكمت تدريجيا حتى وصلت إلى حد إعلان طهران عن تخصيب جزئي ومحدود لليورانيوم بنسبة 60%، وبشكل أوسع 20%. ليس ذلك فحسب، بل إن الإشارة الأميركية كانت دائما موازية إلى رغبة غير نووية: توسيع المفاوضات المتوقعة نحو نفوذ إيران الإقليمي وبرنامجها الصاروخي.

بالنسبة لصانع القرار الإيراني، لا تختلف مطالب إدارة بايدن عن شروط سلفه للعودة للاتفاق. هي النبرة فقط التي تغيرت، إضافة إلى الوجوه التي تولت إدارة المفاوضات. وهذا لا يعني شيئا في النظرة الإيرانية تجاه أميركا. هنا لا بد من الإشارة إلى أن الموقف الإيراني تدرج في الفترة الفاصلة بين تنصيب بايدن وتنصيب رئيسي، وفق المعطيات التالية:

  • عودة المحادثات في فيينا من دون حضور أميركا، كونها خارج مجموعة الاتفاق النووي
  • تحويل إدارة الملف التفاوضي من الخارجية إلى مجلس الأمن القومي بشكل جزئي، ولاحقا بشكل كلي
  • تغيير عباس عراقتشي بعدما كان كبيرا للمفاوضين ونائبا لوزير الخارجية، حيث جرى تعيين علي باقري كني في موقعه بوزارة الخارجية

هذا التدرج في الأداء، ألمحت طهران بأنه فرصة لواشنطن، كي تصحح المسار وتعود إلى الاتفاق، وهو ما تدرك طهران أنه بات شبه مستحيل وفق الظروف الموضوعية المستجدة.

المحسوم هنا أن قرار إبقاء الاتفاق على قيد الحياة كان سياسيا بالكامل، فكل الخطوات التي جرى اتخاذها منذ العام 2018 من قبل أميركا ولاحقا من قبل إيران، أنهت مفاعيله على نحو عملي. سياسة الضغط القصوى الأميركية ضربت الجدوى الاقتصادية للاتفاق بالنسبة لطهران، وباتت تحرمها ما يزيد عن مئة وخمسين مليون دولار يوميا من الدخل المفترض من بيع النفط، من دون حساب الخسائر الأخرى من قبيل الدعم الحكومي الإجباري للمواد الأساسية، والذي ارتفع خلال هذه الفترة ليلامس حدود السبعين مليار دولار سنويا، وهو الأعلى من بين دول العالم.

في المقابل، دخل البرنامج النووي مرحلة السباحة الحرة عكس التيار، وخرج خطوة بعد خطوة عن رادار الرصد الأميركي والدولي، ضاربا هدفا رئيسا للاتفاق وهو ضبطه وإبقاؤه تحت السيطرة، ومنعه من التحول نحو العسكرة. الآن وبعد نحو عامين من الخطوات الإيرانية التصعيدية، وتحديدا بعد وقف تسليم صور الكاميرات الخاصة بالوكالة الدولية للطاقة الذرية بقرار أحادي، أصبح الحديث عن اقتراب إيران أكثر فأكثر من نقطة اللاعودة جديا، وهذا وحده حري بجعل اتفاق 2015 بالنسبة للإيرانيين والسداسية الدولية معا، وثيقة عفا عليها الزمن.

بين الحد الأدنى الإيراني والحد الأدنى الأميركي المطلوبين من طاولة المفاوضات، تبدو الفجوة كبيرة. لا طاقة لتسوية فيينا لرأبها أو ملئها بالتسويات، وهذا ما يرجح نهاية صفحة 2015 بكل ما فيها من حسنات وسيئات، والاتجاه عمليا نحو طاولة جديدة بقواعد مختلفة، وربما بجدول أعمال يتناسب مع الأمر الواقع. اختصار الوقت قد يفيد الجميع.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: