الجادّة: طريقٌ في اتجاهين

ثلاث قطرات من الدم (الجزء الثاني) لصادق هدايت

للمشاركة:

جاده ايران- أدب فارسي

ترجمة/ ديانا محمود

نكمل في هذا الأسبوع الجزء الثاني من قصة “ثلاث قطرات من الدم” للكاتب الإيراني صادق هدايت.

الأغرب من كل ذلك هو رفيقي وجاري عباس، لم يكن قد مضى أسبوعان على إحضاره إلى هنا حتى أصبح مقرباً مني، يعتبر نفسه نبياً وشاعراً، ودائماً يقول كل شيء يتعلق بالنبوة مرهون بالحظ والنصيب، فكل شخص محظوظ وليس لديه هموم يحظى بها، وإن كان من علامات الدهر ولم يكن له حظ فسيأتي يومه لا محالة. يظن عباس أنه عازف “تار” ماهر، فوضع على سريره وتر يعتقد أنه تار ويعيد على مسمعي شعره ثماني مرات يومياً، يبدو أنهم أحضروه إلى هنا بسبب هذا الشعر أو الأنشودة الغريبة:
“وا حسرتاه لقد حل الليل
والكون أسودَّ كالفحم
عم الهدوء كل البشر
إلا أنا، زاد حزني وعذابي
لا حلت السعادة على العالم
ولا علاج لحزني سوا الموت
لكن هناك عند جذع السروة
سقطت ثلاث قطرات من الدم “
أمس كنا نتنزه في الحديقة وعباس يردد هذ الشعر، عندما جاء إلى زيارته رجل وامرأة وشابة صغيرة، هذه المرة الخامسة التي يأتي زوار عباس إليه. لقد رأيتهم سابقاً وعرفتهم، الشابة أحضرت له باقة ورد. وكانت تتبسم ليّ من الواضح إنها أحبتني، في الحقيقة كانت تأتي لرؤيتي فوجه عباس الأبله ليس جميلاً، ولكن عندما كانت تلك السيدة تتحدث مع الطبيب، عباس أخذ الفتاة بعيداً وقبّلها.
حتى الآن لم يأت أحد إلى زيارتي ولم تصلني أي ورود، سنة كاملة. آخر زيارة كانت لسياوش، وسياوش هذا أفضل أصدقائي كنا جيران نذهب معاً إلى “دار الفنون” ونعود معاً وندرس معاً وفي أوقات الفراغ كنت أعلّم سياوش على التار، ابنة عمه “رخساره” كانت خطيبتي وفي أغلب الأحيان تجالسنا، أما أختها فقد كان سياوش يفكر بالارتباط بها، إلا إنها هجرته قبل شهر واحد من الزواج وساءت حالة سياوش، ذهبت لرؤيته عدة مرات ولكنهم قالوا لي إن الطبيب منعه من التحدث معي ورغم إلحاحي إلا إنهم لم يغيروا رأيهم وأنا لم أصر أكثر.
أتذكّر جيداُ، كنا على أبواب الامتحانات، عدتُ إلى المنزل عند الغروب وضعت كتبي وكراساتي الدراسية على الطاولة وهممت لأبدل ملابسي عندما سمعت صوت إطلاق الرصاص، كان قريباً لدرجة أصابني فيها الذعر، فمنزلنا قرب السور وسمعت إن سرقةً قد وقعت على مقربةٍ منا، أخرجت مسدسي الدوار من الدرج وأسرعت إلى الساحة ووقفت أنصت للأصوات ثم صعدت إلى الشرفة ولكني لم أرى أي شيء، عندما أعدتُ نظرة إلى منزل سياوش رأيته يقف في الساحة بملابسه الداخلية، قلت له بدهشة: “سياوش هذا أنت؟”، تعرّف علي عن بعد وقال: “تعال إلى منزلنا لا أحد هنا”، “هل سمعت صوت الرصاص؟” وضع أصبعه على شفتيه وأشار برأسه لي أن آتي. بسرعة هبطت السلالم وقرعت باب منزلهم، فتح الباب بنفسه، سألني وهو ينظر إلى الأرض: “لماذا لم تأت لرؤيتي؟”
“جئت عدة مرات ولكنهم قالوا لي إن الطبيب لا يسمح لك برؤيته”
“كانوا يظنون أنني لست على ما يرام ولكنهم مخطئين”
سألته ثانيةً: “هل سمعت صوت الرصاص؟”
دون أن يجيبني أخذني من يدي واصطحبني نحو الحديقة هناك بالقرب من شجرة السرو أشار لي، أمعنت النظر، كان هناك ثلاث قطرات من الدم سقطت على الأرض.
أخذني إلى غرفته وأغلق جميع الأبواب، جلست على الكرسي وأضاء المصباح وجلس على الكرسي المقابل قرب الطاولة، غرفته بسيطة مطلية باللون الأزرق جدرانها متعفنة، على طرف الغرفة هناك تار وعدد من الكتب والكرّاسات المدرسية، فتح سياوش درج الطاولة وأخرج منه مسدس دوار وآراني إياه، لقد كان قديماً مزيناً بالصدف، ثم وضعه في جيب بنطاله وقال:
لقد كان لدي قطة أنثى اسمها “نازي” ربما رأيتها سابقاً، قطة بنية مرقطة من النوع العادي، عيناها واسعتان مكحلتان، على ظهرها رسومات وزخارف مرتبة وكأنها ورقة تجفيف سكب عليها حبر ثم طويت من المنتصف، عندما كنت أعود من المدرسة كانت نازي تركض نحوي، ويعلو مواءها وتقترب مني لتحك رأسها وجسمها بي، وعندما أجلس تصعد على رأسي وحقيبتي وتحك فمها بوجهي وتلعق جبيني بلسانها وتصر على أن أقبّلها، وكأن أنثى القطة أكثر مكراً ولطفاً وحساسيةً من القط الذكر، تتركني “نازي” لتتجه نحو الطباخة فجميع الأطعمة لديها، لكن كانت تبتعد عن “كيابيا” الخادمة المسنة التي كانت تصلي حينها وتحذر من شعر القطط، ربما كانت “نازي” تعتقد إن البشر أذكى من القطط واحتكروا كل الأطعمة لأنفسهم ولابد لمعشر القطط من التملق لهم ليشاركوهم إياها.
لا تتوحش “نازي” وتظهر فطرتها إلا عندما يهاجمها الديك ذو الرأس الأحمر فتتحول عندها إلى مخلوق وحشي، تتسع حدقات عيونها وتزداد لمعاناً، وتخرج مخالبها من مخبئهم وتبدأ بالصراخ والتهديد، ثم تبدأ بالمراوغة وكأنها تريد خداع خصمها فتجلس له بالمرصاد حتى تتمكن من الهجوم لتستعرض كل قوتها بدموية كاملة ثم تنهي هذه المسرحية عندما يلم بها التعب، وتأكل ضحيتها بشراهة كاملة، ثم تنسى لساعتين مدنيتها المزيفة ولا تقترب من أحد ولا تتملق لأي أحد.
“نازي” التي كانت تظهر المودة في داخلها وحشية لم تكشف عنها وعن أسرارا حياتها، كانت تعتبر منزلنا منزلها، فإذا ما مرت من هنا قطة غريبة ولاسيما من القطط الذكور فستسمع أصوات الصراخ والعجيج بشكل مكثف.
الصوت الذي كانت تصدره “نازي” عند الغداء يختلف عن صوتها عند اللعب وصراخها عندما تجوع يختلف عن صراخها أثناء اشتباكاتها وعن تأوهاتها بعض الأحيان. ولكل صوت لحن خاص فالأول يلين القلب والثاني مليء بالحقد أما الأخير فهو تأوه مؤلم تقول فيه حاجاتها الطبيعية لتصل إلى رفيق لها. لكن عيون “نازي” كانت مختلفة جداً مملوءة بالمعاني وأحياناً تعكس احساسات بشرية، مما يجعل الانسان يتساءل : ماذا يخفي هذا الرأس المليء بالوبر، ماذا تخفي تلك العيون الخضراء وأيّ أفكار تدور خلفها!
السنة الماضية في فصل الربيع هبت عاصفة قوية، وكما تعلم فإن هذا الفصل هو فصل السكر والعشق ،كل المخلوقات تبحث عن شريك لها، وكأن نسيم الربيع يشعل الجنون في جميع الكائنات و “نازي” شعرت للمرة الأولى بالحب والرجفات التي ملأت قلبها، كانت ترسل آهات الحب ليتلقاها الذكور ويأتوا إليها، وبعد معارك واشتباكات اختارت “نازي” شريكا لها صوته أعلى من الجميع. في علاقات الحب التي تخوضها الكائنات تلعب الرائحة دوراً مهماً لذلك فإن القطط المنزلية المرتبة النظيفة لا تجلب الإناث مثل قطط الشوارع النحيفة المشردة الجائعة التي تعيش على السرقة وتحمل الرائحة الأصلية للقطط. “نازي” وشريكها يقضون الليل بين الحب والمواء حتى طلوع الفجر فتعود “نازي” إلى البيت متعبة مجعدة الشعر لكنها سعيدة.
ليال، ولم أستطع النوم من صوت “نازي” في النهاية تعبت منها، وفي إحدى الليالي كنت أعمل هنا أمام النافذة والعشاق يتنزهون في الحديقة، أخرجت مسدسي الدوار وتقدمت إلى الأمام وأفرغته، أصابت الرصاصة شريك “نازي” وكأنها كسرت له ظهره، قفز بالبداية قفزة عالية وهرب من الممر دون أن يصدر أي صوت لكنه سقط أمام الجدار الرخامي في الحديقة ومات.
على طول الطريق التي عبرها القط سقطت قطرات من الدم، بحثت “نازي” عنه عدة مرات إلى أن وجدت دماءه على الأرض تحسستها بأنفها وذهبت مباشرةً نحو جسده، ليلتين ويومين تحرس جسده وتلمسه أحياناً، كأنها كانت تقول له: استيقظ، ما زال الربيع في أوله لماذا تركت الحب وغوت، لماذا لا تتحرك؟ قف!” فهذه “نازي” لا تعرف معنى الموت لذلك لم تدرك أن معشوقها مات.
في اليوم التالي اختفت “نازي” وجسد محبوبها، بحثت كثيراً لكني لم أجدها فهل هي غاضبة مني، هل ماتت؟ هل ذهبت نحو حبّها، ماذا فعلت بعد موت شريكها؟
في إحدى الليالي سمعت تأوهات ذلك القط مرة ثانية كان يصرخ حتى الصباح، نفس الأصوات تكررت في الليلة التالية لينقطع عند الصباح، في الليلة الثالثة جهزت مسدسي وأفرغته على شجرة السرو، لم أتمكن من رؤية عيونه في الليل لكنه أطلق صرخة طويلة ثم قطع الصوت. عند الصباح رأيت تحت الشجرة ثلاث قطرات من الدم. منذ تلك الليلة إلى اليوم تخرج الأصوات نفسها والجميع نومهم عميق لا يسمعون هذه الأصوات، وكلما أقول لهم يضحكون ولكني أدرك جيداً إنه ذات صوت القط الذي قتلته، ومنذ ذلك اليوم حتى الآن لا أستطيع النوم، أينما أذهب وفي أي غرفة أنام أسمع صوت ذلك القط الجشع طيلة الليل وهو ينادي شريكته بصوت مرعب.
لا أحد في المنزل اليوم أتيت إلى المكان الذي كانت تجلس فيه القطة وتصرخ وضعت إشارة فأنا أعرفه من بريق عيونها في العتمة، وأفرغت المسدس فيه ثم سمعت صوت القطة وهي تصرخ وسقطت ثلاث قطرات من الدماء على الأرض، رأيتها بعينيك، أنت تشهد بذلك صحيح؟
في هذه الأثناء دخلت أمه و “رخساره” المنزل، تحمل الأخيرة باقة من الزهور، وقفت وألقيت التحية عليهما، لكن سياوش ابتسم وقال: “السيد أحمد خان تعرفاه أكثر مني، بالطبع غني عن التعريف، وهو يشهد أنه رأى ثلاث قطرات من الدم بعينه أسفل شجرة السرو.
“نعم أنا رأيت ذلك”
لكن سياوش تقدم ضاحكاً وأخرج المسدس الدوار من جيبي ووضعه على الطاولة، وقال: تعرفون إن ميرزا أحمد خان ليس فقط عازف تار جيد وشاعر بل هو أيضاً صياد ماهر لا يخطئ فريسته”
أشار إليّ فوقفت وقلت:
“نعم عصر اليوم جئت إلى هنا لآخذ كرّاستي المدرسية من سياوش وذهبنا إلى شجرة السرو لنقضي بعض الوقت، ولكن قطرات الدم الثلاث ليست للقطة بل هي للبومة، كما تعلمون إن البومة أكلت ثلاث حبات من القمح من أموال غيرها وفي كل ليلة تصرخ ليسقط منها ثلاث قطرات من الدم، انتظروا قليلاً سأقرأ لكم شعري الجديد، أمسكت بالتار وبدأت العزف عليه:
“وا حسرتاه لقد حل الليل
والكون أسودَّ كالفحم
عم الهدوء كل البشر
إلا أنا، زاد حزني وعذابي
لا حلت السعادة على العالم
ولا علاج لحزني سوا الموت
لكن هناك عند جذع السروة
سقطت ثلاث قطرات من الدم “
عندما وصلت إلى هذا المقطع خرجت أم “رخساره” من الغرفة بسرعة، فيما “رفعت “رخساره” حاجبيها إلى الأعلى وقالت “هذا مجنون”، وأخذت سياوش من يده وعلت ضحكاتهما عالياً وخرجا من الغرفة، وأغلقوا الباب في وجهي.
وعندما وصلا إلى الساحة وقفا تحت المصباح رأيتهما من النافذة كانا يعانقان بعضهما ويتبادلان القبل.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: