الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة15 فبراير 2021 15:54
للمشاركة:

فروغ فرخزاد التي يحترق قلبها على الحديقة

كانت فروغ فرخزاد ولا تزال تمثّل الصوت الأنثوي المتفرّد والمتمرّد في الشعر الفارسي الحديث، وقد استطاعت أن تحفر اسمها إلى جانب الكبار من أعمدة الشعر الحديث، أمثال أحمد شاملو ومهدي أخوان ثالث وبيجن جلالي وسهراب سبهري وغيرهم، واستطاعت رسم قصيدة خارجة عن المألوف، ومع أنّها توفيت في ريعان شبابها وعطائها، إلا أنّها تركت رسائل مهمّة سيحفظها الأدب الفارسي الحديث.

واستطاعت أن تكون “ميلاد آخر” كما عنونت في أحد دواوينها، واستطاعت أن تكسر “الجدار” حيث آمنت بـ “التمرّد” سبيلا إلى الخروج من كونها “الأسيرة”، وكانت تؤمن بالدفء سبيلا، وتعرف أنّه ثمة بداية للبرد، فقالت كلمتها الأخيرة “فلنؤمن بحلول فصل البرد”.

القصيدة الجحيم

في العام 2008 في سوريا التي كانت تغطيها غمامة سوداء وبخاصة لتلك الأصوات الخارجة من عباءة المألوف السلطوي، قرّرت مجموعة من الأصدقاء الشعراء إصدار مجلة شعرية واعدة باسم “الجحيم” وللتحايل على الرقابة تم تسميته بـ “كتاب الجحيم” سلسلة غير دورية، وبرئاسة تحرير للشعراء/ الأصدقاء “ريبر يوسف” و”أمير الحسين” وهيئة تحرير ضمّت الشعراء/ الأصدقاء “أوميد” و”خوشمان قادو” وأنا، وبعد رحلة شاقة في التمهيد لطباعة الكتاب/ المجلة فقد تمت الموافقة على الطباعة دون النشر وتم توقيف “الجحيم” بعد إصدارها الأول مباشرة، وكان الجحيم ذاك يضم قصائد بديعة من الأدب الفارسي وغيره، لكن بذرة ذلك العدد اليتيم كان الأدب الفارسي.

كان ثمة زاوية في الكتاب/المجلة باسم القصيدة الجحيم، وكانت هذه الزاوية من نصيب الشاعرة الإيرانية الحداثوية فروغ فرخزاد، وكنت حينها أبدأ في التعرّف على الآداب الفارسية من بوابة جحيمها.

القصيدة الجحيم تلك لم تكن سوى “أشعر بالأسى نحو الحديقة” لفروغ فرخزاد، التي قرأتها لعشرات المرّات حتى عرّشت أزهار فرخزاد في وجداني، لكنّها ساطت قلبي بتلك الصور التي ترشح بالألم، فخلال قراءاتي العديدة لم أكن قد قرأت بعدُ قصيدة بهذا الأسى عن الحديقة التي يتكلّم عنها الشعراء عادة كقارورة عطر وكحبّ وحياة أرضيين/ سماويين.

فروغ فرخزاد التي يحترق قلبها على الحديقة 1

أشعر بالأسى نحو الحديقة

هذا النصّ الشعري الذي تُرجم بأشكال مختلفة إلى العربية، هو أحد النصوص التي كانت بوابة قرّاء العربية إلى الآداب الفارسية الحديثة، فهي نصّ مليء بالصور الشعرية والكنايات والرمز.

لا أحد يفكّر بالأزهار‏

لا أحد يفكّر بالأسماك‏

لا أحد يريد تصديق أنّ الحديقة تحتضر‏

أن قلب الحديقة متورّم تحت الشمس‏

وأن ذهن الحديقة ينزف، بهدوء، ذكرياتٍ خضراء‏

وحسّ الحديقة كأنه شيء مجرّد‏

يتفسّخ في انزواء الحديقة‏

تفتتح فرخزاد نصّها الشعريّ عن “الحديقة” بالنفيّ، فحديقتها هنا المثال وليس الاستثناء، تحتضر وترشح بالموت والألم، ويبدو أنّ الكلّ يُجاور الحديقة دون الالتفات إليها، فالحديقة في ذهن الآخرين هي بخير دوما، لذا لا أحد يفكّر فيها، ولا أحد يودّ أن يستأنس إلى جمالها، فالحديقة دوما هي مزهرية لأزهار اصطناعية وسيعة، لا يكترثون لوجودها لذا هي إلى جوارهم دون أن تكون حديقة في دواخلهم.

حديقة فرخزاد هي خريف روحي وخريف جسدي لكلّ الشخوص التي تمرّ في النص الشعري، ابتداء من الأب والأم ومرورا بالأخت والأخ، أي أنّها الأسرة التي تحتضر وتنزف لكن في غرف منعزلة، فالأب ينزف كالأشجار التي تتيبّس رويدا رويدا، والأم تبحث عن الارتواء من أشياء يتضح لها أنّها ليست ماء، فيما الأخ يُجادل في حيوات الاخضرار فلا يحصل سوى على التساقط المرّ في خريف ما، أم الأخت فهي تلك التي تُنجب أطفالا، لكنّهم أطفالا لا يمثّلون أملا وحياة جديدة ومتجدّدة، فالجميع يعيش خريفه بطريقة ما.

  • الأب:

الأب يقول: فات أواني‏

فات أواني‏

لقد حملت أوزاري‏

وأتممت عملي.‏

وفي غرفته، من الصباح حتى الغروب‏

هو إما يقرأ الشاهنامه

أو ناسخ التواريخ

الأب يقول للأم:‏

اللعنة على كل سمكة وكل طير.‏

ما همني، إذا مِتُّ،‏

أكانت الحديقةُ أمْ لمْ تكنْ‏

  • الأم:

الأم كل حياتها سجادة مفروشة‏

على عتبة رعب جهنم.‏

الأم تقتفي آثار أقدام خطيئة‏

في أعماق كل شيء،‏

وتظن أن الحديقة ملوثة‏

بسبب كفر شجرة.‏

الأم مذنبة بالفطرة‏

الأم كل يوم تقرأ الدعاء‏

وتعزّم على كلَّ الأزهار‏

وتعزّم على كلَّ الأسماك‏

وتعزّم على نفسها‏

الأم في انتظار يوم الظهور

  • الأخ:

أخي يسمي الحديقة مقبرة‏

أخي يسخر من شغب الحشائش‏

ويعدُّ جثث السمكات المتعفنة‏

تحت جلد الماء المريض،‏

أخي مدمن فلسفة‏

أخي يرى شفاء الحديقة في انهدامها.‏

إنه يسكر‏

يضرب بقبضته الحائط والباب‏

يريد أن يقول: أنا متوجع، تعب، يائس.‏

يأسه مثل بطاقته الشخصية وتقويمه ومنديله‏

وقداحته وقلمه، ‏

يأخذه معه إلى الزقاق والسوق، ‏

يأسه من الضآلة بحيث يضيع كلَّ ليلة‏

في زحام الحانة.‏

  • الأخت:

أختي التي كانت صديقة الزهور‏

وكلمات قلبها الساذجة‏

عندما تضربها أمي، ‏

تأخذ الزهور إلى محفلها العطوف الصامت‏

أحياناً تستضيف عائلة الأسماك‏

إلى الشمس والحلوى..‏

بيتها في الجانب الآخر من المدينة‏

هي داخل بيتها الاصطناعي‏

مع أسماكها الحمر الاصطناعية‏

وفي حماية حب زوجها الاصطناعي‏

وتحت أغصان أشجار تفاحها الاصطناعية‏

تغني أغاني اصطناعية‏

وتُنجب أطفالاً طبيعيين.‏

كلما جاءت تزورنا‏

تتوسخ أذيال تنورتها من فقر الحديقة‏

تستحم بالكولونيا، ‏

هي كلما جاءتنا‏

تكون حبلى.‏

فروخ فرخزاد سيرة ذاتية مختصرة

ولدت فروغ عام ١٩٣٤ في طهران، وتزوّجت في عمر صغير إلا أنّ هذا الزواج لم يدم سوى خمسة أعوام مخلّفا وراءه ولدا باسم “كاميار” تدعوه فروغ بـ “كامي” وقد تركت فروغ في حياتها القصيرة 32 عاما، حيث توفيت إثر حادث سير، وتركت خلفها خمس مجموعات شعرية هي: (الأسيرة) أصدرتها عام 1952، ومجموعة بعنوان (الجدار) عام 1957، و(تمرّد) التي أصدرتها عام 1959، وأخيرا في حياتها (ميلاد آخر) عام 1962، التي كانت آخر مجموعة أصدرتها في حياتها، ثم صدرت مجموعة أخيرة بعد وفاتها بعنوان (فلنؤمن بحلول فصل البرد) وهي مجموعة كانت تعمل عليها ولم تنهها.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: