الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة13 يناير 2021 10:10
للمشاركة:

بين موسيقى “ني نوا” و “حرائق نينوى”.. موسيقى مُلهِمة بعبق التاريخ

إنّ غالبية من استعموا أو يستمعون إلى موسيقى "ني نوا" قد فتنوا بها للحظتها، إذ أنّها موسيقى تمسّ الأجزاء الداخلية للإنسان، موسيقى أقرب إلى الصوفيّة التي تُدخِل مستمعها إلى عوالم مُتداخلة كمرايا متقابلة تعكس نفسها بأطوار مختلفة إلى ما لا نهاية.

كما أنّ غالبية من استمعوا أو يستمعون إلى موسيقى “نينوى” يشعرون بالرضى والحبور، حيث عبق التاريخ الغابر الذي تنفضه الآلات النفخية ليكون بذلك تاريخا مستعادا من الحلم والقوة والعنفوان والعزة من إضاءات التاريخ في مقابل الحاضر الهشّ.

بين موسيقى "ني نوا" و "حرائق نينوى".. موسيقى مُلهِمة بعبق التاريخ 1

موسيقى حرائق “نينوى” الخالدة

في بدايات العام 2003 وحين كانت العراق في عناوين أخبار وقنوات العالم والحديث الملتهب حول احتمال البدء بحملة عسكرية ضدّه، وعلى وقع المظاهرات التي شهدتها أمريكا الرافضة شعبيا للزج بها في معارك كالتي لم تُحسم إلى حينها في أفغانستان، حينها جلب لي أحد الأصدقاء شريطا (كاسيت) قبل عصر الأقراص المدمّجة بقليل، وكان مدوّن عليها (نينوى) وأخبرني أنّها موسيقى “خالدة” وعليّ أن أسمعها، وكان ذلك بالفعل، وكانت حمى الأخبار وأثير صوت إذاعة سوا القادمة مع طبول الحرب وموسيقى نينوى مزيجا واحدا، فنينوى بالنسبة لي كانت مدينة أشبه بالعواصم التي لن أزورها في العالم، لذلك كانت شيئا يشبه الحُلم، وأخبرني صديقي، أن نينوى هي مدينة تاريخية عراقية، لذلك اختلط الأمر كلّه عليّ، حتى صارت كلّها عبارة عن قطعة موسيقى تشتغل في خلفية الأحداث الكبرى في المنطقة آنذاك.

ولأنّها تعبق بالتاريخ فقد كان أول ما حصلت عليه من معلومات حول هذه الموسيقى التحفة هو ما يلي والذي يسرد تاريخ آشور في قطعة موسيقية أثرية تم اكتشافها على الرُقُم، وأعيد انتاجها وتلحينها حديثا:

  • المقطع الأول: يصف عظمة الإمبراطورية الآشورية، ويستعرض جيشها النظامي.
  • المقطع الثاني: يرمز إلى تآمر وتكالب قوى الأعداء لإضعاف هذه الإمبراطورية.
  • المقطع الثالث: يستعرض المعارك الطاحنة التي دارت رحاها بين الجيش الآشوري وجيوش الأعداء المتحالفة.
  • المقطع الرابع: يجسد الدمار والخراب، ويغلب عليه طابع الحزن والأسى لما حل بنينوى من حرائق.

خطأ شائع لنوستاليجيا المجد

الكثير من المتابعين والملمين بالموسيقى حتى وإن كان ذلك فضولا، يعرفون وببساطة أنّ موسيقى “ني نوا” هي مجموعة مقاطع موسيقية للملحّن الإيراني حسين علي زاده وهو أمر مسلّم به وبخاصة أنّ المؤلف لا يزال حيّا وأنّ موسيقى “ني نوا” يتم عزفها من قبل فرقة السيمفونية الوطنية الإيرانية وهي موسيقى معروفة جدا في إيران وفي الكثير من دول العالم. فكلمة “ني” تعني بالفارسية “قصب الناي” وكلمة “نوا” تعني “لحن”، فيصبح معناها “لحن الناي”، وهو العنوان لمجموع المقاطع الموسيقية، فحسين علي زاده من مواليد طهران هو مؤلف وباحث ومعلّم موسيقي إيراني يهتم بموسيقى بلاده التقليدية.

إنّ الخطأ الشائع في الأوساط السورية والعراقية، نتيجة التطابق اللفظي بين الكلمتين، لعب دورا هاما في هذا الشيوع، إضافة إلى أسطرة الموسيقى وربطها بتاريخ آشور، ونوستاليجيا الحضارة الغابرة، حتى إنّ الكتابة المقطعية لكلمة نينوى المدينة (الآشورية) تكتب بذات الرسم الفارسي تقريبا، ففي الكتابات المسمارية القديمة في عصر سلالة أور الثالثة وردت بصيغة (ني-نو-آ)، وحتى إنّ شرائط الكاسيت في سوريا، باعتبارها تتبع لشركات بدون تراخيص كانت تدوّن على هذه الموسيقى “نينوى”.


سحر “ني نوا”

يقول حسين علي زاده الذي ألّف موسيقى “ني نوا” في بدايات الثمانينات عن ظروف تأليف هذه الموسيقى (كانت أياما قاسية تبعث على اليأس، في تلك الأيام كنت أمضي أوقاتي وحيدا لأركز على ما أريد أن أؤلف، كانت “ني نوا” بمثابة كتابة مذكراتي لأشهر)، والموسيقى ترشح بالألم تختلط فيها مشاعر الانكسار والرغبة في العزلة عن العالم والركون إلى الذات، حيث يقول علي زاده (الآن عندما أتذكر كلّ هذا وأذكر أني حينها كنت بحاجة إلى التعبير عن كل الآلام التي شعرت بها، كنت أظن أني خلقت شيئا لو أنني أو أي شخص آخر تعرض للظلم، سيعرف أنه مازال هناك شيء يذكّر الناس بتلك الأيام كلما ارتفعت فيه صوت هذه المعزوفة، أنا لم أكن أريد تذكير الناس بآلامهم، بل كنت أريد مواساتهم في تلك الأيام الصعبة)، وهي السنوات التي شهدت أطول حرب بين العراق وإيران وشهدت آلاف الضحايا والعذابات. ومع أنّ البعض يربط بين موسيقى “ني نوا” ومعركة كربلاء والمظلومية الشيعية، إلا أنّها كانت تعبّر بحسب علي زاده نفسه عن الأيام العصيبة التي تعرّض لها الناس وبخاصة في القرى الحدودية بين العراق وإيران.

وخارج الزمن والدواعي الشخصية للمؤلّف فإنّ هذه الموسيقى تعبّر عن الوحدة والعزلة والانكسار الذي يجعل منه الناي أقرب إلى الروح، كحالة صوفيّة تُرافق الدراويش في خلواتهم.

بالنسبة لأولئك الذين يسمعون هذه الموسيقى يبدو أنّ تلك الموجات الساحرة من الآلات النفخية، وبخاصة الناي إلى جانب الآلات الأخرى، تعني تلك اللحظات الشاعرية الروحانية البعيدة عن سبر حقائق من قال أو لحّن، سواء أكانت قد أسندت إلى رحم التاريخ خطأ أو أسندت إلى مؤلفها حسين علي زاده صوابا.

أخيرا دعنا نتوقّف قليلا على غلاف موسيقى “ني نوا” التي تمتلئ بالإشارات الصوفية الغائرة في الروح وتُشكّل صورة علي زاده ملتحيا معها ذلك المعنى السامي، بحيث يتحوّل إلى جزء من اللوحة/ الغلاف.

بروفايل

حسين علي زاده (ولد في طهران سنة 1951) هو مؤلف وباحث ومعلّم موسيقي إيراني، يعزف أيضا على آلتي التار والسه تار الوتريتين التقليديتين ويهتم بموسيقى الرديف الإيرانية التقليدية. له أعمال مشتركة مع عدد من أبرز الموسيقيين والمغنين الإيرانيين من بينهم الراحل محمد رضا شجريان وشهرام ناظري والأرمني جيوان غاسبريان، كما قام بتأليف موسيقى تصويرية لعدة أفلام منها (السلاحف أيضا تستطيع أن تطير) و(نصف القمر) للمخرج بهمن قبادي.

رشّح علي زاده سنة 2007 للحصول على جائزة غرامي مع الموسيقي الأرمني جيوان غاسبريان، عن ألبومهما الموسيقي المشترك “الرؤية اللامحدودة”. وفي سنة 2008 حصل على لقب “موسيقيّ العام الأكثر تميزا في إيران”.

تم تأليف الموسيقى “ني نوا” في العام 1983، وعزفتها أوركسترا إيران الوطنية لأول مرة في العام 1984.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: