الجادّة: طريقٌ في اتجاهين

من دعوة التغيير إلى نصائح التربية المعاصرة/ سمكة بهرنجي السوداء الصغيرة

للمشاركة:

حين تتأمّل حكايات وقصص الشعوب التي كانت تُحكى للأطفال (قصص الأمسيات قُبيل النوم) وذلك عن طريق الجد أو الجدة غالبا، ترى أنّ فيها الكثير من الحكمة والمُتعة، إلا أنّها لا تُراعي في جلّها قواعد البيداغوجيا المعاصرة، حيث أنّ فيها القتل والمخلوقات المرعبة والشياطين والجان، ما يجعلها بحسب قواعد هذه البيداغوجيا المعاصرة قصص عنيفة أو مُرعبة لا تصلح للأطفال، ودعنا نذكر فقط هنا إحدى أهمّ القصص العالمية والمعروفة باسم (قصص الأخوين غريم) وما قصص ساندريلا وبياض الثلج والأقزام السبعة وذات الرداء الأحمر إلا أحد أبرز آثارهما، ففي ثنايا قصصهم نجد كثير من الأمور التي تنأى أصول التربية الحديثة بترويجها ونشرها للأطفال، لذلك ستجد فارقا كبيرا بين النصوص الأصلية وتلك المشذّبة بمقص البيداغوجيا المعاصرة.

لن نحاول في هذا المقام عقد مقارنة بين أهداف القصص الشعبية والبيداغوجيا المعاصرة، لكننا سنتجاوز الأمر إلى الحديث عن القصص التي تمت كتابتها بوعي ثوري وداعي للتغيير، وذلك من خلال نموذج لأحد قصص “الأطفال” التي تركها إرثا خالدا الكاتب الإيراني الأشهر في مجاله صمد بهرنجي، وهي قصة السمكة السوداء الصغيرة واستخدام الرمز والدعوة إلى الثورة داخل هذه القصة كنموذج للقلق الشعبي والنخبوي في عصره.

الثورة في “السمكة السوداء الصغيرة”

إنّ قصة “السمكة السوداء الصغيرة” تعدّ من القصص التي تحكي عن الرغبة في قتل الرتابة والروتين وخرق الهدنة التي يعيشها السمك/الإنسان، حيث إن بطل بهرنجي ييأس من رتابة العيش بسرعة ويقرّر اكتشاف العالم إلى ما خلف الاعتياد الذي يعيشه وفي رحلة البحث عن حياة جديدة يحمل خنجرا ليواجه به شرور الحياة، وينتصر في المعركة تلو الأخرى بطريقة أو بأخرى وبحكمة تنضح بالحياة، إلا أنّ النهاية تكون بمواجهتها نبع الشرّ في القصة وهو النورس، حيث يبدو المشهد الأخير من القصة كما لو أنّه مواجهة أحد أبطال شاهنامة الفردوسي للشرّ، حيث يدور في المشهد ما يلي:

أشارت السمكة السوداء إلى خنجرها وقالت: “سأقوم بتمتزيق بطنها من هنا، الآن عليكِ أن تسمعيني جيّدا، سأبدأ بالذهاب هنا وهناك روحة وجيئة، عندها سيتدغدغ النورس، وحين تفتح فمها مقهقهة تخرجين بسرعة”.
قالت السمكة الصغيرة: “وماذا عنك؟”.
قالت السمكة السوداء الصغيرة: “لا تفكري بي، لن أخرج حتى أقتل هذا الشرير”.
يخلع بهرنجي صفات الأبطال والفرسان الحقيقيين على سمكته/ إنسانه حيث الشجاعة والإباء والتضحية، لكن مع المواجهة الحتمية مع الموت لأجل التغيير، لذلك تجد أنّ سمكته تبقى إلى ما بعد رواية القصة لتبقى متيقّظة ومشدودة إلى الحلم:
قال الأطفال والأحفاد: “يا جدتنا لم تخبرينا ما الذي حلّ بالسمكة السوداء الصغيرة؟”.
قالت السمكة العجوز: “سندع بقية القصة إلى ليلة الغد، الآن حان وقت النوم، تصبحون على خير”.
قالت أحد عشرة ألفا وتسعمائة وتسعة وتسعون سمكة “تصبحين على خير” وذهبوا إلى النوم.
وخلدت السمكة العجوز أيضا إلى النوم، لكنّ السمكة الحمراء الصغيرة لم تستطع الخلود إلى النوم مهما فعلت، وظلّت طوال الليل وحتى الصباح تفكر في البحر.

بهرنجي لا ييأس أو يدع اليأس يرشح من قصته، حيث أنّه يدع بداية الثورة والتغيير في ختامها من خلال إرثها التي تحملها السمكة الحمراء الصغيرة في عينيها التي تفكّران في الغد والبحر، لذا فمن الواضح أنّ بهرنجي يبني قصته لتكون قصة زرع الثورة في داخل القرّاء، أطفالا ويافعين وشبابا، وقد استخدم الحيوانات في ترميزه للقصة، لكنّه لم يستخدم عناصر الحكايا التقليدية في الحكايات الفارسية القديمة من أسد وثعلب وحمار وغيره، لكنه استخدم السمك ومن خلالها لم يسرد لنا حكمة العجائز في ضرورة الرضى والقناعة ونيل رضى السلطان أو شرف الزواج بابنته الجميلة كأقصى نوال يأخذه أبطال العديد من الحكايا.

إنّه يدعو للثورة والتضحية سوية بعد أن يزرعها في الآخرين، إنّها نظرة مقاوِمة وغير مُهادِنة، وهو الوقت الذي كانت فيه الثورة ملقاة على عاتق النخبة والتنورين في المجتمع، وهو العصر الذي كان يغلي فيه مِرجلُ التغيير.

من دعوة التغيير إلى المُهادَنة

إنّ أحد دعوات البيداغوجيا المعاصرة/ Pedagogy moderne (أصول التربية الحديثة) والتي هي نظرية تطبيقية للتربية تستمد مفاهيمها من علم النفس وعلم الاجتماع، هي تربية الأطفال على مجموعة مبادئ وأخلاقيات سليمة دفعه ليكون نافعا في الحياة لنفسه وللآخرين، إلا أنّها صارت وسيلة للدفع بقصة الأطفال إلى نصائح وحكم مشذّبة بمقصّ البيداغوجيا، تقول دراسة عن القصة الموجهة للأطفال بين الفنّ والتربية (إنّ القصة الموجّهة للطفل هي وسيلة قوية لتربية الناشئة على القيم وتدخل ضمن البيداغوجيا المعاصرة التي راهنت على مبدأ الحوار والتواصل واللاتوجيه، لكن ضمان هذا الرهان التربوي لإنتاج القيم وهندسة المجتمع المُتفاعل مع المستجدات العالمية ضمن المنظور الإيتيقي للفلسفة كرؤية عقلانية للعالم، نجد القصة قد فقدت جانبا مهما من القيم الجمالية).

إنّ قصص الأطفال توجّه إلى الأطفال ببساطة تصل إلى السطحية أحيانا، وتنأى بنفسها عن قول الأشياء العظيمة، فهل فعلا بات الأطفال أقلّ تأثرا بالأفكار العظيمة، أم أنّ الخنجر المعلّق على خاصرة سمكة سوداء صغيرة ستشعل فيه رغبة العنف، إنّ أقل ما يمكن أن تكون عليه قصص الأطفال أنّها نأت بنفسها عن التغيير والثورة، ولجأت إلى الزاوية المواربة والمُهادنة من البيداغوجيا المعاصرة.

إنّ الترميز القويّ في سمكة بهرنجي السوداء الصغيرة هو روح التغيير لدى جيل من معاصريه وهم أنفسهم من كانوا قوّاد التغيير في شوارع طهران في الثورة الإيرانية التي شارك فيها جلّ فئات الشعب الإيراني، إلا أنّ الذين كانوا في المقدّمة ويعون ما الذي يحملونه من قيم ولافتات كانوا أولئك الذي تركت فيهم خناجر بهرنجي والنخبة حينها في نفوسهم أثرها.

صمد بهرنجي (1939 – 1967)

صمد بهرنجي بالفارسية (صمد بهرنگی)، هو كاتب ومعلّم وناقد ومترجم إيراني من أصول أذرية، توفي عن عمر ناهز الـ 29 فقط، حيث مات غرقا، وقد تم توجيه اتهامات حينها إلى السافاك (الاستخبارات في عهد الشاه)، حيث أنّه كان ذا توجّه يساري وثوري، حتى أنّ بعض مؤلّفاته ومنها قصة (السمكة السوداء الصغيرة) قد منعت في عهد الشاه، وكان من روّاد الحداثة الإيرانية، ومتأثرا كغيره من رودا الحداثة بالأيديولوجيات اليسارية.

ويعتبر رائدا في كتابة قصة الأطفال في إيران، حيث لا يزال أثره في جميع كتاب قصص الأطفال الإيرانيين إلى هذا اليوم، ومع أنّ قصصه الموجهة للأطفال، تحاكي الطفولة بدرجة عالية من الرهافة والرمزية العالية غير الاعتيادية، إلا أنّ النقاد وخاصة اليساريين منهم حاولوا دوما ربط هذه القصص بالأيديولوجية اليسارية، إلا أنّ آثاره ذات طابع إنساني عام، والرموز هي رموز غير مستعملة بكثرة في الأدب الإيراني، وبخاصة في القصة التي بين يدينا، وهي “السمكة السوداء الصغيرة”، وقد ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات العالمية.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: