الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة28 ديسمبر 2020 21:30
للمشاركة:

سهراب سبهري.. شطحات شعرية بتجربة صوفيّة خاصة

سهراب سبهري هو أحد أبرز الشعراء الإيرانيين المعروفين كنماذج دالة على الحركة الحداثية في الشعر الإيراني أواسط القرن العشرين، وقد استطاع تبوّء مركز هام بين شعراء جيله، حتى وإن كان الاحتفاء به قد جاء متأخرا بعض الشيء، وعلى الرغم من مرور أربعين عاما على رحيله، إلا أنّه لا يزال حديث الأدب، كما يعدّ أحد أهم الشعراء الذين اهتمت بهم الأوساط الثقافية في المنطقة، حيث صدرت مجاميعه الشعرية بأكثر من ترجمة وبأكثر من طبعة، كما كتب عنه الكثير من المقالات والدراسات واحتفت بأدبه الفريد.

الصوفيّة العابرة

في الحديث عن التصوّف لا بدّ من التعريج على ما هو ذو صبغة دينية، فالتصوّف في لبابه ارتقاء بحالة التديّن من المعاملات والعبادات ضمن الأركان الإسلامية الخمسة إلى أفق أرحب يتجاوزه إلى محبة الله، وقد ترك الشعراء والأدباء المتصوّفة مدوّنة ضخمة من شعرهم ونثرهم معبّرين عن حبّ نورانيّ لاجسديّ، وحاول تجسيد هذه النورانية في قفص اللغة الرحبة عبر الاستعارة والمجاز الذي تمتاز به اللغة، وخرجوا بتجربة ثنائية في الحبّ مركّبة من مجاز اللغة عن الحبيبة الأرضيّة، في تعبير عن الله في نورانيته، أي محاولة تجسيد النور الإلهي في جسد المحبوبة الأرضيّة.

يقول حافظ الشيرازي:

منذ غابَ وجهُ حَبِيبي،
وطوفانٌ مِن الحُزنِ يَفِيضُ مِنْ قلبِي.
ويُحوّلُ عينيَّ إلى بحرين مُرّينِ!
*
لن أتخلَّى عنْ الرغبةِ حتَّى تُرضى رغبتِي
فإمَّا أجعلُ فَمي ينالَ
ثغرَ حَبيبي الورديّ، أَو ينقَضِي أَجَلي.

يعدّ سهراب في هذا المُقام شاعرا صوفيّا عابرا، إذ أنّه يتجاوز حالة التشبيهات والمجازات والاستعارات لتشبيه عالم الخلق بالخالق/ الله، ليبني الحالة الكونيّة التي يكون مدراها الكون ذاته، والإنسانية ذاتها، وربط كينونة الإنسان بالأشياء التي تدعو إلى المحبّة للإنسانية الرحبة، في محاولة لبناء عالم من الحب والألق، وحين وجّه إليه أحد النقّاد الإيرانيين نقدا لاذِعا إليه بقوله: (بينما تقوم الولايات المتحدة بقصف فيتنام بالنابالم وتقتل البشر هناك، أكنت قلقا بشأن سقي حمامة؟ فرّد عليه سهراب: يا صديقي العزيز، إن أصل القضية هنا، فمن لم يتعلّم الشعر ليقلق على سقي حمامة ما، فإنه لن يهتم بموت البشر في فيتنام أو أيّ مكان آخر، بل يعدّه أمرا بديهيا).

ولعلّ هذه الصوفية هي التي يتحدّث عنها أدونيس بقوله (مدار الصوفية كما أفهمهما هو اللامَقول، اللامرئي، اللامعروف، والهدف الأخير الذي يسعى إليه الصوفيّ هو أن يتماهى مع هذا الغيب؛ أي مع المطلق).

يقول سهراب في قصيدة (وقع خطى أقدام الماء):

لي إله في هذا الجوار: بين أزهار الليلك هذه، عند الصنوبرة الشامخة تلك\ فوق وعي للماء

فوق قانون النبتة.

مسلم أنا، قبلتي وردة حمراء، مصلاتي النبع، تربتي النور، سجادتي السهل، إني أتوضأ بنبضات النوافذ، في صلاتي ينساب القمر، يسرح الطيف، خلف صلاتي يتجلى الحجر، لقد تبلورت كل ذرات صلاتي.

إني أُقيم الصلاة حينما: تنطق الريح آذانها، فوق منارة السرو، إثر تكبيرة الإحرام، إثر “قد قامت” الموج
كعبتي على حافة الماء، كعبتي تحت أزاهير الأكاسيا، كعبتي كالنسيم تتنقل من بستان إلى بستان

من مدينة إلى أخرى، “حجري الأسود”” ضياء الجُنينة.

وهذه التجربة الصوفيّة الخاصة تتجلّى في جميع نتاجه الشعريّ الذي يحتفي بالطبيعة والإنسان، ويكترث لأمر أبسط الكائنات ويزرع الحبّ والضياء في ثنايا الحياة الأرضيّة، وما الـ (هيجستان) والتي تُشير إلى اللامكان إلا مكان ما في الخيال لكنّه يمسّ الشعور الإنسانيّ اليوميّ حين يختلي إلى نفسه وينبذ كلّ الكراهية التي تتعلّق بثوبه إثر الكراهة التي تبثّها الحياة.

يقول سهراب في قصيدته (واحة في اللحظة):

إن جئتم في طلبي، فأنا خلف اللامكان، وهو مكان ما، فخلف اللامكان تفيضُ عروق الهواء بتويجاتٍ تحملُ أخباراً عن زهرة تفتّحت في أقصى أيكة في الأرض.

وعلى الرمال، آثار حوافر خيلِ فرسان أرقاء، اعتلوا صباحاً ربوةَ معراج شقائق النعمان، وخلف اللامكان مظلة الرغبة مفتوحةٌ، فما أن تهبَّ نسمةٌ للظمأ في صميم ورقة شجر، حتى تدقّ أجراس المطر، والمرء ها هنا وحيد، وفي وحدته هذه، يجري ظلُّ دردارٍ إلى الأبد، إن جئتم في طلبي مهلاً تعالوا، لئلّا تتفطر آنية وحدتي الخزفيةِ الرقيقةِ.

من الكلمة إلى اللون

إنّ سهراب قدّم تجربة متكاملة في فلسفته الخاصة وصوفيّته العابرة، حيث أنّه يعتبر فنانا ذا تجربة خاصة تكاد توازي تجربته في الكتابة أو هي كذلك بالفعل، إذ أنّه لا يقدّم تجربة متمايزة عن أسلوبه الشعريّ، وإنما يقدّم تجربة مكمّلة لهذه الكتابة، حيث إنّ لوحاته تنضح بالخيال الجامح صوب العوالم البعيدة، والتي تشبه المجاز الشعري والاستعارات ما بين الحسّي واللاحسّي، ومنها لوحات الرمّان التي يرسم فيها أفقا للخيال، أو تلك التي يرسم فيها الوحدة وهي رسم لشخص ما داخل قارورة توازي قصيدته عن الوحدة.

يقول سهراب في قصيدته (موت اللون):

ثمة لون جنب الليل مات ساكتا بدون كلام.
وصل طائر أسود من الأقاصي،
يغني من علو ّ سطح ليل الهزيمة.
ثملا بالفتح الذي حققه هذا الطائر عابد الأحزان.
في هزيمة اللون المنفرط لعقد الألحان،
بقي صوت الطير الشجاع وحده يزين أذن السكينة البسيطة،
بقرط الصدى.

وإلى جانب الحساسية العالية والخيال تحفل قصائد ولوحات سهراب بفيض من الحزن الشفيف، الذي يكاد يكون بلّوريا يعكس كلّ الصفاء ويتهشّم لأي عارض، لكنّه إذ يتهشّم أيضا يندلق جبا وألقا لا ينتهي، وهذا يذكّرنا بقصائد المتصوّفة عن هجران الحبيب، والتي تمنح الألم معنى مضاعفا من ولع الوجد.

يبقى سهراب سبهري صاحب تجربة فريدة لقارئ العربية، وخاصة أنّها منحته فيض خيال ومجاز واستعارة، ولعلّ الالتفات الدائم إلى سبهري نابع من ضرورة العودة إلى نبع الإنسانية الصافية في زمن الدم والحروب التي لا تنتهي وفي وقت باتت فيه الإنسانية على المحكّ تدأب على صناعة الموت اليومي، فما أحوج القارئ إلى الركون إلى العشق الذي تمنحه هذه القصائد وذلك الحزن النبيل الذي تفيض به الكلمات وتنضح به اللوحات.

سهراب.. 51 عاما من العطاء واللمة الطيبة والحياة الشفيفة

ولد سهراب سبهري بمدينة قم الإيرانية في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1928، وعاش في بيت جدّه في رعاية أمّه بعد أن توفي والده وهو صغير، التحق بدار المعلمين عام 1945، وعمل في دائرة الثقافة في مدينة كاشان ثم ذهب إلى طهران ليبدأ دراسته في كلية الفنون الجميلة بجامعة طهران.

نشر أولى مجموعاته الشعرية (موت اللون) في سنّ الثالثة والعشرين من عمره، وانطلق في مشواره التشكيلي جنبا إلى جنب مع اسهامه الشعري والأدبي، وفي نفس العام شارك في عدد من المعارض الفنية في طهران وأصدر مجموعته الشعرية الثانية (حياة الرؤى)، ثم سافر إلى عدد من دول الشرق مثل الهند وباكستان والصين واليابان. اهتم بالشعر القديم لسائر هذه البلدان فقام بترجمة العديد من الأشعار القديمة عن الصينية واليابانية، كما قضى فترة في اليابان تعلم خلالها فن النقش على الخشب، كما سافر أيضا إلى أوروبا متنقلا بين انجلترا وفرنسا، قبل أن يعود إلى إيران ليستقر به المقام في مدينة “كاشان” وضواحيها للعشر سنين الأخيرة من حياته، وتوفي سهراب بمرض السرطان في عام 1980.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: