الهجوم والدفاع بين تركيا وإيران
نجح الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان في إثارة غضب الشريك الإيراني في المعادلة الجيوسياسية الجديدة التي تضم تركيا إلى إيران وروسيا، وترسم حدوداً وآليات لإدارة ديناميّة التنافس والتعاون، كما يبرز ذلك في إدارة الصراع الأذربيجاني الأرميني في جنوب القوقاز، وقبل ذلك في إدارة الأزمة السورية الشديدة التعقيد.
وكان يكفي الرئيس التركي استعادة بعض أبياتٍ من قصيدة تلمّح إلى وحدة أذربيجان التاريخية، (في شقّيها الشمالي المستقل وعاصمته باكو والجنوبي التابع للسيادة الإيرانية وعاصمته تبريز)، لكي تفهم طهران أن الشريك الأوراسي يلعب بنار القومية الإثنية التركية، محرّضاً من حيث يدري أو لا يدري الأذريّين في إيران وهم يمثّلون مع الفرس العمود الفقري لوحدة الأمة الإيرانية والأمن الوطني للجمهورية الإسلامية على الانفصال وتهديد السلامة الإقليمية للدولة الإيرانية.
لا أدري إذا كان إردوغان يعرف أن الأذريين الشيعة في إيران هم عماد هيكلية الدولة ومنهم المرشد الأعلى السيّد علي خامنئي وغيره من كبار الإداريين والسياسيين. كما أنني أتساءل عمّا إذا كان إردوغان يدرك أن التفاعل التركي – الإيراني في إطار الحضارة الإسلامية هو الذي صنع صورة آسيا الوسطى، التركية إثنيًّا، والفارسيّة ثقافة وعمارة، وإن آذربيجان الخارجة من حضن الاتحاد السوفياتي هي النموذج البارز لظاهرة التوليف الإسلامي الفارسي التركي.
في أي حال، إنّ ما يدركه إردوغان بالتأكيد هو خطورة الانزلاق إلى “الضرب تحت الزنّار” في موضوع شديد الحساسية الجيوسياسية، ألا وهو التوازن الدقيق والاستقرار التاريخي في العلاقة التركية – الإيرانية منذ الصراع العثماني الصفوي والتسوية التي أقامت بين الدولتين خط قصر شيرين الذي يُعتبر أوّل حدود دولية ثابتة في التاريخ الحديث.
الأذريون الشيعة في إيران هم عماد هيكلية الدولة ومنهم المرشد الأعلى السيّد علي خامنئي وغيره من كبار الإداريين والسياسيين
لذلك أتصوّر أن ثمّة هبّة عاطفية جعلت إردوغان في باكو يُقدم على خطوة شعوبيّة ربّما تكون مطلوبة داخليًّا في الأناضول بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية وتصاعد موجة التطرف القومي التركي حالياً، فضلاً عن ديبلوماسية القوّة الناهضة المعتمدة من جانب أنقرة على جبهات عدّة يتقدّمها الصراع على الطاقة والنفوذ في شرق المتوسط، وهو الأمر الذي يضع أنقرة في موقع الهجوم في سباق التنافس على الزعامة الإقليمية مع إيران ويسمح لها بتسجيل نقاط عدّة على القطب الآخر.
ذلك أن إيران تبدو اليوم في حالة الدفاع الاستراتيجي، إذا أخذنا في الاعتبار الانكفاء إلى موقف الانتظار بديلاً من الرد المباشر على الضربات الأميركية/الإسرائيلية التي تعرّضت لها منذ اغتيال الجنرال قاسم سليماني، والعمليات التخريبية التي استهدفت منشآت برنامجها النووي وآخرها عملية اغتيال العالِم النووي البارز محسن فخري زاده. قد يقال أن موقف الانتظار من جانب القيادة الإيرانية إنما يعود إلى اعتبارات تكتيكية تفرض الحذر الشديد وعدم الانجرار إلى حرب مع إدارة ترامب تحرض إسرائيل عليها، مثلما أن الاعتبارات إيّاها تفرض عدم تفويت فرصة انتقال السلطة في واشنطن إلى إدارة بايدن لعلها تفسح المجال لإعادة تفعيل الاتفاق النووي والتحرر من الضغوط الأميركية “القصوى”. لكن يبدو أنّ المراوحة إلى حدِّ الغرق في الأزمات المتفاقمة في سوريا والعراق واليمن في ظل توسّع الموجة التطبيعية العربية مع إسرائيل من شأنها أن تستنزف طاقات إيران العاملة في تثبيت مواقع النفوذ وتجعلها غير قادرة على تحريك خطوط الصراع أو تغيير التوازنات كما تفعل تركيا في الساحة الليبية وشرق المتوسط ومنطقة القوقاز.
ومع أنّ القراءتين الإيرانية والتركية “للإسلام السياسي” تتّسمان بمفارقات عميقة أيديولوجية وجيوسياسية، فإنّ هذا لا يمنع أن تلتقي التصورات الاستراتيجية للقطبين حول فَهم تحولات العلاقات الدولية وموازين القوّة وتحديداً صعود القوى الناهضة مثل الصين والهند وروسيا، والتراجع المتدرج لمكانة القوى الغربية على النطاق العالمي. وإلى هذا التفاهم الاستراتيجي الذي يغطي الملف النووي الإيراني ومعارضة تركيا للجهود التي تقودها واشنطن لعزل إيران ومحاصرتها اقتصاديًّا، والتقارب بين القطبين في معارضة سياسات الإحتلال والهيمنة الإسرائيلية والتمحور حول القضية الفلسطينية، فإنّ السباق على الزعامة والنفوذ في العالم العربي وآسيا الوسطى – وهو طموح يُظهر فيه الطرفان نقاط قوّة وموارد كبيرة وقدرة على تصوّر وتطبيق سياسات غير مؤاتية للقوى الغربية الرئيسية – إنّما يجري هذا السباق في إطار معادلة جيواستراتيجية يحرص فيها الإيرانيوّن كما الأتراك على التذكير بأنّهم تجنّبوا الحرب طوال أكثر من 300 سنة. كأنّهم بذلك يغلّبون الطابع المتوازن بعلاقاتهم التي يرون أنها تتّسم بالعمق والنضج والاستقرار، وهي سمات تجعل أي تدهور سياسي خطير للروابط الثنائية بين تركيا وإيران خارج التصوّر.