الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة18 سبتمبر 2020 22:04
للمشاركة:

الرجل الذي رفض التجسس.. قصة العالم الإيراني سيروس عسغري

وصل العالم الإيراني سيروس عسغري إلى إيران في 3 حزيران/ يونيو الماضي، بعد 3 سنوات من اعتقاله لدى وصوله إلى مطار جون كنيدي في أميركا، وذلك بعد عملية تبادل حصلت بين طهران وواشنطن. سنوات قضاها العالم الإيراني في سجون الولايات المتحدة، حاملة معها الكثير من الذكريات والتفاصيل. نقلت الصحافية الأميركية لورا سيكور هذه الذكريات عن عسغري، ونشرتها في مقال لها في 14 أيلول/ سبتمبر تحت عنوان "الرجل الذي رفض التجسس" في صحيفة "نيويوركر". في هذا المقال، الذي أعدت "جادة إيران" ترجمة كاملة له، شرح لكافة المراحل التي مرّ بها عسغري، والمواقف البارزة التي أعلنها في سجون أميركا.

في ربيع العام 2017، تلقى العالم الإيراني سيروس أصغري مكالمة من قنصلية الولايات المتحدة في دبي. قبل ذلك بعامين، تقدم هو وزوجته فاطمة بطلب للحصول على تأشيرة لزيارة أميركا، حيث يعيش أطفالهما. أبلغته القنصلية أنه تمت الموافقة على طلبهم. كان التوقيت غريبًا، فقد كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد أصدر للتو أمرًا تنفيذيًا يمنع الإيرانيين من دخول الولايات المتحدة. ربما تم تقديم الطلبات قبل حظر التأشيرة، أو أن بعض المسؤولين في وزارة الخارجية أرادوا منح عائلات كعائلة أصغري فرصة أخيرة للم شملهم.

عسغري، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 56 عامًا، اعتبر الولايات المتحدة وطنًا ثانيًا. في التسعينيات، كان قد التحق بكلية الدراسات العليا في جامعة دريكسيل، في فيلادلفيا. ولدت ابنته سارة في الولايات المتحدة، مما جعلها مواطنة أميركية. التحق ولديه الأكبر سنّاً، محمد وزهرة، بالجامعات الأميركية وظلوا فيها. كان عسغري أستاذاً في جامعة “شريف” للتكنولوجيا في طهران، وعمل سابقاً في مختبرات أميركية مهمة. أخذته أبحاثه العلمية في علم المعادن أحيانًا إلى كليفلاند، حيث كان لديه زملاء مقربون في جامعة كيس ويسترن ريزيرف.

استقل عسغري وفاطمة طائرة متجهة إلى نيويورك في 21 حزيران/ يونيو 2017، وخططوا لرؤية محمد الذي كان يعيش في المدينة، ثم التوجه إلى كاليفورنيا، حيث سيزوران زهرة ويلتقيان بالرجل الذي تزوجته. لكن عندما نزل أصغري وزوجته من الطائرة في مطار جون كيندي، اقترب منهما إثنان من المسؤولين في المطار.

قام المسؤولان بنقل عسغري وزوجته إلى غرفة، حيث كان هناك فرقة من الـFBI في انتظارهم. قال له موظفو الـFBI إنه رهن الاعتقال، ومتهم بتهم خطيرة في لائحة اتهام مختومة لم يتمكنوا من الكشف عن محتوياتها في المطار. خيّر الموظفون عسغري، بين الذهاب إلى الفندق والاطلاع على اللائحة، أو أن يذهب إلى مركز احتجاز محلي ثم يتم نقله إلى كليفلاند للمحاكمة.

كان عسغري يجيد اللغة الإنجليزية، لكن كلمة “لائحة الاتهام” كانت جديدة بالنسبة له. لم يكن لديه مشكلة مع القانون. لقد كان رجلاً مفعمًا بالحيوية معتادًا على وسائل الراحة من الطبقة الوسطى. اعتقد عسغري أن هناك سوء فهم، لذا قرّر الذهاب إلى الفندق لإنهاء المشكلة بسرعة.

لائحة اتهامات

في الفندق، سلم الموظفون عسغري لائحة اتهام من 12 صفحة. وجهت إليه التهم بسرقة الأسرار التجارية والاحتيال على التأشيرات وإحدى عشرة تهمة بالاحتيال البرقي. بالنسبة إلى عسغري، قرأ لائحة الاتهام وكأنها قصة تجسس مثيرة. وركزت الاتهامات على زيارة قام بها لمدة أربعة أشهر إلى كيس وسترن قبل أربع سنوات، والتي قدمتها الوثيقة كجزء من مخطط للاحتيال على شركة أميركية في كيس وسترن من أجل إفادة الحكومة الإيرانية. وأوضح الموظفون أن العقوبة قد تصل إلى سنوات عديدة في السجن. مؤكدين له أنه تم جمع الشهادات من التجسس على رسائله الاكترونية ومكالماته قبل وأثناء وبعد الزيارة المعنية.

اعتبر عسغري أن هذه الإتهامات لا معنى لها. فقال أحد الموظفين له “لم نخسر أي قضية”. فأجابه العالم الإيراني “ستكون هذه هي الأولى لك”.

لم يسبق لعسغري أن رأى زياراته إلى أميركا من منظور توتراتها مع إيران. قال فيلسوف إيراني ذات مرة “العلم جامح وليس له وطن”، وهذا كان اعتقاد عسغري أيضاً. بالنسبة له، من غير الطبيعي أن تدخل المكائد السياسية في التبادل الفكري بين الشعوب، وكان لديه ثقة في قدرة العقلانية الهادئة على تصحيح الأمور.

لذا، اعتبر عسغري أنه إذا تمكّن من جعل موظفي الـFBI يفهمون العلم، سيمكنه حينها تعريفهم بخطأهم. فبدأ العالم الإيراني وصف العلاقات ومعدات المختبر التي جذبته إلى Case Western، ولكن حتى أثناء حديثه، بدأ ينتابه إحساس غارق بأن لائحة الاتهام ليست شيئًا يمكنه تبديده بالكلمات.

في تلك الليلة، عادت فاطمة إلى منزل ابنها محمد، وبقي حارسان في غرفة فندق عسغري وهو نائم. في الصباح، اقتاد العملاء أصغري إلى كليفلاند، وكان معه زوجته وابنه. تم تقديمه للمحاكمة في المحكمة الفيدرالية وتم تسليمه إلى مركز احتجاز في مقاطعة ليك، وهو سجن شديد الحراسة في بينيسفيل، أوهايو. جلس أصغري في زنزانة منعزلة في أول 72 يومًا.

مكتب التحقيقات الفيدرالي كان لديه سبب للاهتمام برجل مثل عسغري. فقد كانت جامعة “شريف”، والتي يعمل بها، المؤسسة التقنية الأولى في إيران. خلال سلسلة محادثات معي (كاتبة المقال)، والتي بدأت في العام 2018، أكد لي عسغري “أنني لم أعمل عن قصد أبدًا لأغراض مدمرة. إذا كان لديك قلم، يمكنك كتابة رسالة حب، أو يمكنك كتابة تعليمات لصنع قنبلة. وبالتالي، المشكلة ليست في القلم”.

كانت مهنة عسغري بمثابة رسالة حب للذرة. لقد أُذهل عندما اكتشفها لأول مرة بمساعدة المجهر الإلكتروني. كان يدير فريقًا بحثيًا متميزًا من طلاب الدكتوراه، وكان يتمتع بكاريزما جاذبة أثناء إلقاء محاضراته في جامعة ” شريف. كان عسغري يعمل مع وزارة الطاقة الإيرانية، لتقييم وإطالة عمر أجزاء التوربينات الغازية. كان يُجري أيضًا دراسة جدوى لشركة تعدين مملوكة للدولة، كانت تبحث في إنتاج معادن عالية الأداء ومقاومة للحرارة تُعرف باسم السبائك الفائقة.

رحلته إلى كيس ويسترن

لطالما كانت العقوبات الدولية حقيقة في إيران. في السنوات التي سبقت المفاوضات النووية بين إيران والقوى العالمية، شُددت القيود: لا يمكن استيراد أي شيء يمكن تصنيفه على أنه “استخدام مزدوج”، أو ينطبق على المجالين العسكري والمدني على حد سواء، إلى إيران، وبالتالي امتدّت العقوبات إلى علم المواد التي يعمل بها عسغري.

لم يتمكن عسغري من طلب قطع غيار أو صيانة المجهر الإلكتروني المستخدم في جامعة “شريف”، والذي تم تصنيعه في الولايات المتحدة بتكلفة قاربت المليون دولار، ولذلك تعلم هو وطلابه إصلاح الجهاز بطريقة ارتجالية. في عام 2011، وبسبب عدم وجود قطع بديلة، تعطّلت الآلة لشهور. في ذلك العام، قام عسغري بزيارة بيروز بيروز، وهو صديق وزميل في كيس ويسترن. كان مختبر علم المواد هناك يحتوي على أحدث التقنيات ومجموعة من الأدوات التي لا توجد غالبًا في منشأة واحدة. كان عسغري مؤهلاً للحصول على إجازة في العام التالي، وكان يأمل في العودة إلى كيس.

كان عسغري حريصًا على العمل في مختبر، وفي الوقت عينه جني بعض الدولارات خصوصاً بعد سقوط العملة الإيرانية والمصاريف التي لديه بسبب تعليم أولاده في الولايات المتحدة. لذا، ذهب عسغري إلى أميركا بتأشيرة زائر في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، مع خطة لقضاء بعض الوقت مع أطفاله مع الاستمرار في البحث عن عمل. بعد أيام قليلة من وصوله إلى نيويورك، علم أن وظيفة قد فتحت بشكل غير متوقع في مختبر علوم المواد في جامعة كيس.

عرض آرثر هوير، العالم المسؤول آنذاك عن المختبر، على عسغري الوظيفة. ستحتاج الجامعة إلى بدء الأعمال الورقية لتحويل تأشيرته إلى H1B، وفي هذا الوقت عمل أصغري بالمختبر كمتطوع، مع وعد غير رسمي بدفع أجر متأخر بمجرد تسوية وضعه.

يتألف العمل بشكل أساسي من تحضير عينات المجهر. ولكن بعد أسابيع قليلة من العمل، طلب هوير من عسغري تحليل التركيب الذري لعينات الفولاذ المقاوم للصدأ من الشريك الصناعي للجامعة، شركة Swagelok. التي مولت بسخاء في منتصف عام 2000، مختبر القسم، وأصبح يطلق عليه الآن مركز Swagelok لتحليل المواد.

بقي عسغري في كيس ويسترن لمدة ثلاثة أشهر، قبل أن يعلم أن الجامعة قد ألغت عرض العمل الرسمي، بعد أن أشار هوير إلى أن “حكومة الولايات المتحدة قلقة بشأن أنشطتك في البلاد”. واصل عسغري العمل بينما كانت الجامعة تبحث عن بديل، ودفع هوير له أتعابًا تقديرية.

“لن أكون جاسوساً”

في نيسان/ أبريل من العام 2013، لاحظ أصغري بطاقة عمل عالقة في دعامة باب شقته. البطاقة تعود لموظف خاص في الـFBI يُدعى ماثيو أولسون، كتب أولسون رسالة طلب فيها من عسغري الاتصال به. انتاب الخوف عسغري، واعتبر أنه في مأزق. اتصل ببيروز وصديق آخر لطلب النصيحة، لكن خطوطهم كانت مشغولة. أخيرًا، اتصل بأولسون، واقترح الأخير الاجتماع بعد بضع دقائق فقط، في مقهى بنفس الشارع. وبينما كان عسغري متجهاً إلى العنوان المتفق عليه، بدأ يتخيّل أن الجميع يراقبه.

كان أولسون لطيفًا، ويبدو أنه أراد في الغالب إجراء محادثة قصيرة. سأل أولسون عن سبب قدوم عسغري إلى كليفلاند، فشرح له أنه في إجازة ويبحث عن عمل. اعتقد أولسون بأن مكتب التحقيقات الفيدرالي كان وراء الغاء طلب التأشيرة، وبالتالي أربعة أشهر من العمل، وحوالي عشرين ألف دولار لن تُدفع له أبدًا: كانت الحكومة الأميركية مسؤولة عن ذلك.

بدا أن أولسون أخذ شكوى أصغري على محمل الجد. عرض عليه خمسة آلاف دولار، إذا وقع على ورقة، يمكنه الحصول عليها من رجل آخر في المقهى. أدرك عسغري أنه وقع في فخ. لم يكن أولسون موجودًا لاعتقاله. كان يحاول تجنيده كمخبر.

نظر عسغري إلى الرجل الذي يحمل الورقة ليوقعها. قال إنه لن يوقع على أي شيء أو يأخذ فلسا واحدا من مكتب التحقيقات الفيدرالي. قال عسغري “الشرفاء لا يستقبلوا مثل هذه العروض”. سرعان ما عاد عسغري إلى منزله في إيران.

كان الرجل الذي يحمل الورقة هو الموظف الخاص في الـFBI تيموثي بوجز، ضابط مكافحة التجسس في مكتب كليفلاند الميداني لمكتب التحقيقات الفيدرالي. كان تركيزه منصباً على إيران.

الإيرانيون الذين يزورون الولايات المتحدة أو يقيمون فيها هم معرضون بشكل دائم للإستفزازات من المكتب الفدرالي. لذلك، ترى الحكومة الإيرانية أن أي مواطن عائد من أميركا قد تعامل مع وكالة المخابرات أو أنه جاسوس محتمل. أخبرني بعض الإيرانيين عن محادثات مع عملاء فيدراليين، وتبادل بطاقات، وقبول ورفض. يبحث المكتب الفيدرالي عن نقاط الضعف لاستخدامها كوسيلة ضغط على الأشخاص ليصبحوا مخبرين. يجدون تناقضات في أوراق الهجرة أو يحددون انتهاكات العقوبات الصغيرة، ويهددون أحيانًا بإصدار لائحة اتهام.

بدء الاهتمام بأصغري

في أواخر عام 2012، تلقى بوجز نصيحة من مخبر في كيس تفيد بأن إيرانيًا يحمل تأشيرة سياحية كان يعمل في مختبر هناك. لابد أن بوجز شعر بوجود فرصة معينة: أستاذ من جامعة “شريف” سيكون بلا شك على دراية بعلماء يعملون في الهندسة العسكرية أو النووية في إيران، حينها قرّر بمراقبته عن كثب.

في شباط/ فبراير من العام 2013، طلب بوجز من قاضٍ في ولاية أوهايو منحه أمر تفتيش للتنصت، مدعياً وجود سبب محتمل للاعتقاد بأن عسغري ينتهك العقوبات الأميركية. في إفادة خطية، أبرز بوجز رسائل البريد الإلكتروني التي أرسلها عسغري إلى إيران، وأشار إلى أن جامعة “شريف” تم تمويلها جزئيًا من قبل الحكومة الإيرانية. منح القاضي أمر التنصت على المكالمات الهاتفية، وحق الوصول إلى البريد الإلكتروني. في عام 2015، عندما انتهت صلاحية الحكم القضائي بالتنصت، حصل المكتب الفيدرالي على حكم جديد. في الطلب الجديد، ادّعى المكتب الفيدرالي أنه اكتشف في البريد الإلكتروني دلائل ممكنة لتورط عسغري في انتهاك العقوبات وسرقة الأسرار التجارية وارتكاب الاحتيال على التأشيرة.

في الحقيقة، لم يعثر العملاء على دليل على انتهاك العقوبات، لكنهم صادفوا اقتراحًا على البريد الإلكتروني، وهو من أحد تلامذة عسغري طلب فيه الحصول من المعهد على أبحاث مرتبطة بصناعة البتروكيماويات الإيرانية لتمويل مشروع عن الكربنة منخفضة الحرارة.

بالنسبة لعسغري، كان اقتراح الطالب مصدر إزعاج ومضيعة للوقت. لكن مكتب التحقيقات الفيدرالي اعتبره دليلاً على مؤامرة لمصادرة عملية Swagelok لصالح صناعة البتروكيماويات الإيرانية. يمكن وصف رسائل البريد الإلكتروني السابقة التي أرسلها عسغري إلى بيروز، بحثًا عن عمل، على أنها نية مسبقة، والتأشيرة السياحية بمثابة حيلة. كانت هذه بداية لائحة الاتهام المختومة التي استقبلت عسغري عند عودته إلى نيويورك في عام 2017.

شخص ما في مكتب التحقيقات الفيدرالي ربما كان يعتقد حقًا أن عسغري كان ينقل الأسرار الصناعية إلى إيران. لكن الطريقة التي أجرت بها الوكالة تحقيقاتها تشير إلى رحلة صيد ومحاولة لدفع أصغري ليصبح مخبرا.

خلال أيام عسغري الأولى في سجن مقاطعة ليك، في عام 2017 ، خرج من زنزانته المنعزلة لتناول الوجبات فقط. جعله نزلاء السجن متوترا، ويبدو أن السجناء الآخرين شعروا بنفس الشعور تجاهه. سرعان ما تعرف عسغري على العديد من السجناء الآخرين، من خلال لعب الشطرنج، وبدأ في تثقيف نفسه حول الانقسام العرقي وإدمان المخدرات في الولايات المتحدة. كان يفخر بقدرته على التحدث إلى أي شخص، وسرعان ما كان يعمل كوسيط بين السجناء الذين لديهم خلافات. غالبًا ما كان السجناء الجدد يصلون بعد تقديم العشاء، وقام عسغري بتجميع مجموعة من المواد الغذائية لإطعامهم وخاض معركة في السجن ضد الألفاظ النابية.

قام عسغري بتدريس الفيزياء لمجموعة صغيرة من النزلاء. شرح كيف تعمل كاشفات الأشعة تحت الحمراء، وكيف أن التشتت البصري ينتج أقواس قزح، إضافة إلى ميكانيكا الكم. كان لديه ثلاثة طلاب: واحد روسي واثنان من الأميركيين الأفارقة. دفع عسغري كفالة نزيل آخر. كتب السجين لاحقًا إلى عسغري “علمت في اللحظة التي مررت فيها عبر ذلك الباب أنك مختلف ومميز، لقد فتنتني. كنت أعرف أنه عندما تتحدث أو كان لديك ما تقوله، يجب أن أصمت وأستمع”.

في الأسبوع الأول من سجن عسغري، مكثت فاطمة ومحمد في كليفلاند، حيث زارا السجن وبحثا عن محام. طلب محام يحمل صورة تشي جيفارا في مكتبه نصف مليون دولار مقدمًا، وعندما قال محمد إنه لا يستطيع تحملها اقترح المحامي مهاجمة الحكومة الإيرانية. حاول المحامي الأول في القضية، يدعى إدوارد بريان، إطلاق سراح عسغري مقابل كفالة. اقترح مكتب المدعي العام الأميركي للمنطقة الشمالية من ولاية أوهايو عرضًا، وهو إطلاق سراح مؤقت للقاء موظفين من مكتب التحقيقات الفيدرالي بحضور محاميه. رفض عسغري قائلا “مستحيل، لن أتحدث والأصفاد في يدي، إن كنت تريد التحدث تعال الى هنا”.

لذا، حضر دانييل ريدل، من مكتب المدعي العام الأميركي، وكان برفقة موظفين من مكتب كليفلاند الميداني لمكتب التحقيقات الفيدرالي، بالإضافة إلى “بعض الأشخاص من واشنطن” ، وفقًا لعسغري.

خلال 22 عامًا من العمل كمحامٍ، لم يشهد بريان مطلقًا مثل هذا العرض. في العادة، يعترف المدعى عليه بواحدة على الأقل من التهم الموجهة إليه مقابل شروط أكثر تساهلاً. إلا أن عسغري لم يقبل أيا من التهم الموجهة إليه، فقد أراد موظفو الـFBI منه أن يشارك معلومات استخبارية عامة عن إيران.

مكتب التحقيقات الفيدرالي تطرق إلى لائحة الاتهام، لكنهم سألوا بشكل أساسي عن المشاريع التي يمكن أن تكون مرتبطة بالقدرات العسكرية والنووية لإيران، وهو بحث لم يلعب فيه عسغري أي دور، وعن زملائه في جامعة “شريف” الذين اكتشف المكتب أسماءهم من رسائل بريده الإلكتروني. رفض عسغري الإجابة على هذه الأسئلة. بدلا من ذلك، رد بمثل فارسي “قام رجل بتكوين صداقات مع دب لأنه يعتقد أنه بحاجة إلى كائن قوي. ذات ليلة، بينما كان الرجل نائمًا، حطّت ذبابة على وجهه. كان الدب في الواقع يريد الدفاع عن الرجل، لذا سحق الذبابة بصخرة فقتل الرجل. المقصود؟ لا تكوّن صداقات مع أشخاص أغبياء، حتى لو كانوا أقوياء جدًا”.

بعد أن انتهى الاجتماع عرضت الحكومة الإفراج عن عسغري بكفالة، بشرط أن يخضع لمزيد من الاستجواب. قبل عسغري العرض، معتقدًا أنه أوضح حدوده وسيستمر في الإجابة فقط على الأسئلة ذات الصلة بالتهم الموجهة إليه.

عند إطلاق سراحه ، أبلغ مبنى كليفلاند الفيدرالي، ليتم تزويده بسوار في الكاحل. ولكن هناك تم اعتقاله مرة أخرى، هذه المرة من قبل سلطات الهجرة والجمارك. كان عسغري مندهشًا من أن لائحة الاتهام لم تكن مشكلته القانونية الوحيدة: لم يتم ختم تأشيرته في مطار جون كنيدي، على الأرجح لأنها لم تكن تأشيرة حقيقية. فالتأشيرة التي حصل عليها أصدرها مكتب التحقيقات الفيدرالي، وهي تصدر خصيصاً للرعايا الأجانب وهي تمنحهم الإذن بدخول البلاد فقط لأغراض المكتب.

بعد ثمانية أيام ، أخبره ضابط أنه سيُطلق سراحه إذا وقع على استمارة تلزمه بالعودة إلى إيران بعد حل قضيته. كان خياره الآخر الوحيد هو البقاء في السجن. وقع عسغري على الاستمارة، وأطلق سراحه بكفالة، مع سوار في الكاحل وحظر التجول. انتقل إلى مبنى شاهق متهدم في كليفلاند، حيث درس علم الكونيات، وعلّم نفسه الطبخ، وأطعم العصافير على السطح. عاشت فاطمة معه هناك حتى تشرين الأول/أكتوبر من العام 2017، عندما عادت إلى إيران.

في كل مرة كان يجتمع فيها مع موظفي الـFBI، كان يرفض الإقرار بالذنب أو أن يصبح مخبراً، ما أوصل مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى الإحباط.. كانت الحكومة مستعدة لمقاضاته، حتى بعد إدانته بلائحة اتهام واهية. شعر عسغري أن لائحة الاتهام كانت عبارة عن بيت من ورق، لكن التفاصيل الفنية المتراكمة أدت إلى تشابك التهم. للفوز بالقضية، كان محامو عسغري بحاجة إلى فهم سياق ومعنى البيانات في رسائل البريد الإلكتروني الخاصة به، وكانوا بحاجة أيضًا إلى فهم أساس اهتمام عسغري بهذه المعلومات. عند دخوله إلى المحكمة حاول شرح نظريته إلى القضاة قائا “منذ آلاف السنين، عرف البشر أنه عندما تغلي بيضة، فإنها تتصلب. لكنهم يعرفون منذ أقل من مئة عام لماذا يحدث ذلك ولماذا لا يعود إلى الحالة السائلة عند عودته إلى درجة حرارة الغرفة. وذلك بسبب العلم. وبالتالي إهتمامي بالمختبر بـ”كيس” هو للعلم”.

حتى انتهاء محاكمته، لم يكن بإمكانه مغادرة أميركا: كان لديه سوار الكاحل، والإشراف. إذا أدين، سيذهب إلى السجن؛ إذا تمت تبرئته، فسيتم ترحيله. لم يكن يعرف ماذا ينتظره في إيران. من المؤكد أن النظام سوف ينظر بارتياب إلى اتصالاته مع أميركا. في الماضي، تفاوضت الحكومة الإيرانية على تبادل الأسرى مع الولايات المتحدة، لكن عسغري طلب من زوجته إبلاغ وزارة الخارجية الإيرانية بأنه لا يريد أن يشارك في أي مفاوضات من هذا القبيل. لقد شعر أن لديه فرصة لجلسة استماع عادلة أمام القاضي، ولم يرغب في تسييس قضيته.

بدء المحاكمة

بدأت المحاكمة في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2019. عسغري، مرتديًا بدلة سوداء بدون ربطة عنق، على الطراز الإيراني، جلس خلال الإجراءات في حالة تأهب. كانت القضية المعروضة على هيئة المحلفين تقنية بشكل مذهل، لكن الصورة الكبيرة كانت فارغة بشكل غريب. يُزعم أنه سرق أسرارًا تجارية، ولكن ما من شركة تضررت على ما يبدو، ولم يحقق أي أرباح. تم نشر جميع الأسرار التجارية المفترضة في براءات الاختراع والمجلات العلمية.

لدعم تهمة الأسرار التجارية، قدم دانيال ريدل والمدعون الآخرون رسائل بريد إلكتروني أرسلها عسغري أو استلمها، وبعضها يحتوي على بيانات Swagelok. لكن البيانات الموجودة في رسائل البريد الإلكتروني كانت إما خاطئة أو عادية أو متاحة للعامة. كان محور الادعاء هو رسالة بريد إلكتروني تلقاها عسغري من سونيفا كولينز، عالمة المواد في Swagelok والتي تحمل العديد من براءات الاختراع في الكربنة منخفضة الحرارة. وصف المدعون الرسالة، التي تفصّل الأوقات ودرجات الحرارة لعملية الكربنة المستخدمة في إحدى العينات التي طُلب من عسغري تحليلها، على أنها رسالة بريد إلكتروني “للوصفة”. لكن كولينز شهدت بأن الوصفة لم تكن سرًا تجاريًا.

كان هذا هو قلب الادعاء: وصفة لم يطلبها عسغري ولم يستخدمها أبدًا، ومجموعة بيانات خاطئة، واقتراح طالب هاوٍ. كما كانت تهم التأشيرات والاحتيال الإلكتروني واهية بالمثل. وقدم الدفاع طلبًا برفض جميع التهم.

قبل القاضي اقتراح الدفاع. لكنه لم يكن مستعدًا لرفض القضية بعد: لقد وجد الحجج مثيرة للاهتمام، وكان يأمل في كتابة رأي للتسجيل. من الواضح أن النيابة شعرت أن القضية لا تسير على ما يرام، فطلبت من وكالة الاستخبارات أن تأخذ سجينها. كان تحول الأحداث مذهلاً. كان عسغري قد بُرئ للتو في محاكمة عادلة أمام قاضٍ فيدرالي، لكنه سينهي اليوم في السجن المختص بالتهرب الحدودي ومشكلة التأشيرة. على ما يبدو، كانت الحكومة تتصرف بدافع الانتقام.

انتقاله بين السجون

تم نقله إلى مركز إصلاحية شمال شرق أوهايو، وهو سجن خاص، كان يؤوي كل من المجرمين المدانين. كانت هناك مخاوف من تفشي جدري الماء عند وصوله. كان سجنه يحتوي على أربعين سجينًا، العديد منهم من سريلانكا والهند وبنجلاديش. لقد تأثر بقصصهم عن الهجرة حيث قام بعضهم برحلات طويلة عبر الأدغال وتأثر بمثالية الشباب الذين كانوا يتوقعون الحصول على اللجوء في أميركا. قال لي عسغري: “إنهم أتباع كولومبوس حقًا”. كان أحدهم يعلمه لغة التاميل، وآخرون عن البوذية. قال: “أخبرتهم إذا كانوا يريدون تعلم أي شيء في الفيزياء، يمكنني المساعدة”. كان يتصل بي عدة مرات في الأسبوع. تحدثنا حتى قطع خط هاتفه ميكانيكيًا.

حاول مصادقة بعض السجناء الخاضعين لحراسة مشددة. كان أحدهم، من ميانمار، محبطًا للغاية لدرجة أنه جلس طوال أيام كاملة على سريره ووضع بطانية فوق رأسه. طرق عسغري نافذته، وهو يلوح بلوح الشطرنج، وسرعان ما بدأ هو والسجين باللعب، أصغري خارج باب الزنزانة، والرجل البورمي يقف على كرسي حتى يتمكن من رؤية اللوح والإشارة إلى الحركات. حاول السجين الانتحار وطلب أحد الحراس من عسغري التحدث معه. وجد الرجل عارياً تماماً، يطرق بابه.

بعد ثلاثة أشهر ، نُقل عسغري، في منتصف الليل، إلى سجن مقاطعة سينيكا، جنوب توليدو. كان سينيكا أسوأ من يونجستاون: حوالي ستين سريراً في غرفة مفتوحة، متباعدة عن بعضها بنحو ثلاثة أقدام؛ ثلاثة مراحيض قذرة بدون أكشاك؛ الضوضاء والضوء المستمر. كل ذلك كان يمكن أن يتعامل معه عسغري. لكن محادثته الأولى مع الضابط المسؤول صعّبت الأمور. ويبدو أن الاستخبارات وصفته على أنه زعيم أثار الاضطرابات. قال الضابط له “لا تحاول أن تكون زعيمًا هنا”. انسحب عسغري إلى سريره في صمت شديد.

ومع ذلك ، فقد تأقلم. شعر بالتعاطف مع اليأس الذي دفع السجناء الأميركيين إلى المخدرات والجريمة. قال لي عسغري: “إنهم أولاد اللا مكان. هناك شيء يعجبني حقًا فيهم”. حتى أنه بدأ يفكر في الضابط الذي حذره من أن يكون زعيمًا على أنه “صديقه المقرب”.

في كانون الثاني/ يناير من هذا العام، تلقى إشعارًا يبلغه بأن السجناء الذين صدر بحقهم أمر ترحيل يمكنهم طلب مراجعة الحجز بعد تسعين يومًا، على أمل الفوز بالإفراج عنهم تحت الإشراف. كانت أيامه التسعون قد انتهت في 13 شباط/فبراير. تمت دعوته لتقديم وثائق تبين أنه لا يشكل خطرا على المجتمع. فعل عسغري ذلك بفارغ الصبر، مشيرًا إلى أنه خلال العامين الذي كان ينتظر المحاكمة، كان يطيع كل قرارات المحكمة وحافظ على منع التجول، وأنه تمت تبرئته في المحكمة. في 19 شباط/فبراير تلقى رسالة تفيد برفض طلبه. كانت الرسالة مؤرخة في 3 شباط/ فبراير، أي قبل عشرة أيام من الموعد النهائي وحتى قبل أن يقدم مستنداته الداعمة. أدرك أنه لم ينظر أحد إلى ملفه. كان سبب إعطائه للرفض محيرًا أكثر: قالوا انهم ينتظرون من إيران إصدار وثيقة سفر له، على الرغم من أن جواز السفر الذي سلّمه في عام 2017، كان صالحًا حتى عام 2022.

انتشار فيروس كورونا

بعد انتشار فيروس كورونا، تم تعليق الرحلات الجوية إلى إيران. في البداية، كان عسغري غاضبًا قبل أن يشعر بالذعر. كان معرضًا لخطر الإصابة بعدوى فيروس كوفيد -19. لمدة ست سنوات، كان يعاني من نوبات متكررة من الالتهاب الرئوي، وكان يعاني من مرض مزمن في الكبد وارتفاع في ضغط الدم. مع انتشار الفيروس، أصيب بعدوى في الرئة، لكنه تناول المضادات الحيوية وشفي، لذلك اكتشف أنه ليس مصاباً بالكورونا. لكن الأزمة تفاقمت بعد نقله من سجن إلى آخر أكثر نتانة.

استغرقت عملية نقله الأولى في 10 آذار/مارس حوالي 12 ساعة. كان هو ومعتقلون آخرون، مقيدون بالأغلال والسلاسل، لا يستطيعون تحريك أيديهم لتناول الطعام، وبعض السجناء يلوثون أنفسهم لعدم توفر المرحاض. لقد طاروا من قاعدة إلى أخرى وهبطوا أخيرًا في لويزيانا، حيث كان هناك مركز ترحيل. عندما حان وقت النزول، كان عسغري يعاني من صداع شديد ولا يستطيع الوقوف، عندما وصل إلى الدرج النازل من الطائرة أغمي عليه. في هذا المركز، لا يمكن أن يبقى الشخص أكثر من 7 أيام.

ارتفع ضغط الدم لدى أصغري. بعد سبعة أيام، تقرر ترحيله. أمضى ستة عشر ساعة أخرى متجهًا شمالًا، إلى نيو هامبشاير، ثم جنوبًا، إلى نيو جيرسي، ثم غربًا، إلى تكساس. في كل محطة، جلست الطائرة لساعات على المدرج مع صعود المزيد من السجناء. في النهاية ، ألغيت رحلة عسغري إلى إيران بسبب الوباء. أخيرًا هبطت الطائرة الجليدية مرة أخرى في لويزيانا وعلى متنها أكثر من مائة شخص.

لاحظ عسغري أن ضباط الإصلاحيات ارتدوا أقنعة ضد الفيروس، واشتبه في أنهم يعرفون شيئًا لا يعرفه. كان لديه قناع في حقيبة كان محمد قد حزمها لترحيله، لكن تم منعه من ارتدائها. كان المركز، على حد تعبيره، قنبلة فيروسية جاهزة للانفجار.

في 23 آذار/مارس ، تم وضع عسغري على متن طائرة أخرى حلقت كثيراً، حيث كان يتم جمع النزلاء في كل محطة، وانتهى به الأمر مرة أخرى في مركز لويزيانا. تواصل محمد، الموجود في نيويورك، مع النشطاء والمحامين بذعر متزايد من أن والده لن يعيش ليعود إلى إيران. لم تتمكن فاطمة من زيارته، فقد تقدمت بطلب للحصول على تأشيرة للذهاب إلى أميركا، لكن طلبها قوبل بالرفض.

في نهاية آذار/ مارس، تم نقل عسغري إلى مركز وين الإصلاحي، وهو مجمع مترامي الأطراف يديره القطاع الخاص بالقرب من حدود لويزيانا وتكساس. كانت أول لمحة له عن المكان بمثابة ضربة قوية. كان صندوق خرساني، وكان الهواء رطبًا. كانت النوافذ القليلة مغطاة بزجاج معتم. كان المكان الأكثر كآبة من أي وقت مضى. قال لي: “كلما اعتقدت أنني رأيت أسوأ معاملة، يفاجئونني مرة أخرى”.

في 10 نيسان/أبريل، أخبرني أصغري أن ثلاثة رجال في المنشأة كانت نتيجة اختبارهم للفيروس إيجابية. في هذا الوقت، كان السجن الموجود فيه معزول لأكثر من أربعة عشر يومًا دون أن يمرض أحد. لكن بينما كنا نتحدث، رأى محتجزًا جديدًا يُحضر إلى الكبسولة وهو ما يمثل خطرًا على من بداخلها. قال لي “سأحارب هذا!”. أغلق الخط، ثم اتصل بعد بضع دقائق ليخبرني أنه إذا لم يتصل في غضون ساعة، فمن المحتمل أنه نُقل إلى زنزانة منعزلة، وعلي بعد ذلك الاتصال بأسرته. بعد عشر دقائق، عاد واتصل بي، وسط هدير السجناء في الخلفية.

كان عسغري قد قاد السجن لمهاجمة المدخل. قال للحراس إنه يقاتل من أجل حياته ولن يستسلم. سانده زملاؤه في الزنزانة، واقتيد الوافد الجديد بعيدًا. قال لي عسغري: “الآن الناس سعداء”. قال أحد موظفي السجن الذي شهد المشهد لاحقًا لعسغري أنه شعر بسعادة غامرة عندما تعهد عسغري بالقتال من أجل حياته، وسأل المعتقلين الآخرين عما إذا كانوا سيقاتلون من أجل حياتهم أيضًا. صرخ الجميع، “نعم!” أخبر الموظف عسغري، “شعرت وكأنني في فيلم”.

استمرت معنويات عسغري العالية حوالي ثلاثة أيام فقط. بدأت ساقه اليمنى بالانتفاخ، مصحوبة بكدمات. أصبح المشي مؤلمًا بالنسبة له. حُرم من كرسي متحرك، عرضت عليه ممرضة الثلج بدلاً من ذلك. أخيرًا، رأى طبيبًا اشتبه في حدوث جلطة دموية ونقله إلى المستشفى لإجراء فحص بالموجات فوق الصوتية. اشتبه الطبيب هناك أيضًا في وجود جلطات، على الرغم من أنها كانت أصغر من أن تظهر على الموجات فوق الصوتية، وقال الطبيب أنه لا يمكنه السفر، فلم يبد عسغري آسفًا تمامًا لتأجيل خطط ترحيله مرة أخرى. أخبرني أنه إذا بقي في الولايات المتحدة لفترة أطول، فقد يُمنح حق المثول أمام القضاء. قال: “أريد أن أظهر لهؤلاء الرجال أنهم مخطئون”.

كان عسغري يعمل بلا هوادة في السعي وراء أي قضية. أعطته المستشفى عكازين، لكن استخدامها أصاب ظهره، وفي غضون يومين أرسلها إلى ممرضة، مع ملاحظة تطالب بكرسي متحرك. رفض طلبه. احتجاجًا على ذلك، جنّد رفاقه في الزنزانة لجره على ملاءة سرير. في إحدى المرات ، قال لي وهو يضحك، “لقد جروني على الأرض بسرعة كبيرة، واشتعلت النيران في مؤخرتي”. في أحد الأيام، وضع حارس بهدوء كرسيًا متحركًا داخل الكبسولة. وعزا أصغري هذه الانتصارات إلى ما أسماه “قوة الفرد”. قال لي: “أي شخص بريء ومستقل وحكيم سينتصر في أي موقف”.

كان عسغري ثوريًا ليس لأنه كان أيديولوجيًا دينيًا ولكن لأنه كان يؤمن بالمساواة. كان يعتقد أن العدالة الاجتماعية لها الأسبقية على أي نظرية للدولة. أكثر ما فاجأه، عندما جاء إلى أميركا لأول مرة في التسعينيات، هو أن مثل هذا المجتمع الهادئ والمنظم قد نشأ من الآلة القاسية للرأسمالية.

لا يزال عسغري ينظر إلى أميركا بعاطفة. لقد تعجب من أنه، في كل سجن، يمكنه التقاط هاتف والتحدث إلى الصحفيين، وأن الصحفيين يمكنهم نشر ما يريدون دون خوف من التعرض للرقابة. لكن أكثر ما يقدره هو استقلال القضاء الأميركي.

وقال: “لقد ظهرت كإيراني أمام قاضٍ أميركي”. “هذا القاضي حكم ضد الـ F.B.I. لقد تشرفت بمشاهدة الطريقة التي تعامل بها مع المحاكمة والطريقة التي دافع بها عن الحياد والإنصاف. أعتقد أن هذه قيم عالمية يجب أن تحترمها جميع الحكومات، بما في ذلك حكومتي”. وأضاف: “محاميّ الذين وضعوا قلوبهم في هذا الأمر كانوا موظفين في نفس الحكومة التي كانت في الجانب الآخر من هذه القضية.”

في 25 نيسان/أبريل، جاءت نتيجة اختبار عسغري إيجابية لفيروس كورونا. استيقظ في الليل غارقا في العرق. عندما تحدثنا، بدا ضعيفًا ويسعل بلا انقطاع. تم وضعه في زنزانة “الضغط السلبي” التي تبقي الهواء الملوث بعيداً عن المعتقلين الآخرين. لم يكن لديه دش مع محدودية الوصول إلى الهاتف. ظلت مستويات الأكسجين لديه ثابتة. ولكن بعد شفائه فهم أكثر من أي وقت مضى قذارة ظروفه. بعد أن فشلت كل الطرق الأخرى، بدأت زوجته تتحدث بجدية مع وزارة الخارجية الإيرانية.

تبادلت إيران والولايات المتحدة سجينين في كانون الأول/ ديسمبر. كان من المقرر استبدال مايكل وايت، وهو جندي سابق في البحرية الأميركية حُكم عليه بالسجن سنوات في إيران بتهمة إهانة المرشد الأعلى علي خامنئي، بماتيو تايري جراح التجميل في فلوريدا المتهم بانتهاك العقوبات وتهريب مادة بيولوجية مزدوجة الاستخدام إلى إيران. كان على البلدين تبادل الرجلين من خلال وسطاء سويسريين. في الربيع ، قرر الإيرانيون جعل ترحيل عسغري شرطًا مسبقًا للصفقة.

في بداية شهر أيار/مايو، تسربت تلميحات بالمبادلة في الصحافة الأميركية، وذكرت بعض المقالات اسم عسغري. ادعى كين كوتشينيلي، القائم بأعمال نائب وزير الأمن الداخلي، لوكالة أسوشييتد برس أن الولايات المتحدة كانت تحاول ترحيل عسغري منذ كانون الأول/ ديسمبر، وأن الإيرانيين أخروا تأكيد صلاحية جواز سفره حتى أواخر شباط/ فبراير، عندما تفشى الوباء، مما جعل السفر الدولي مستحيلاً.

اتصل بي من منزله الريفي شمالي طهران، في 4 حزيران/ يونيو. كان يشعر بصدمة الحرية المفاجئة. وكان في استقباله مسؤولون إيرانيون رفيعو المستوى. طالبت وسائل الإعلام المحلية بإجراء مقابلات، ومن الواضح أنها حريصة على تقديمه على أنه ضحية رمزية للظلم الأميركي. رفض عسغري. لم يرد عرض قضيته في ضوء سياسي. ومع ذلك، لا تزال ذكريات سجنه، تتطفل على أفكاره. كان حزينًا عندما علم أن الحارس الذي كان يعرفه في وين مات بسبب كوفيد -19. قال لي: “لقد كان رجلاً لطيفًا”. “لم أر قط أي سلوك عدواني منه.”

قال لي عسغري “أردت أن أفوز بهذه القضية في محكمة أميركية، أمام قاضٍ وهيئة محلفين أميركيين. لأنني علمت أنني لم أرتكب أي خطأ”.

المصدر/ “نيويوركر”

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: