حتى تنسحب أميركا من الشرق الأوسط.. الشراكة مع إيران هي الحل
نشرت مجلة "Foreign Affairs" يوم الأربعاء 26 آب/ أغسطس مقالًا للكاتب الإيراني- الأميركي ولي نصر، حث فيه الإدارة الأميركية على استغلال الفرصة المهيأة لتخفيف حدة التوتر في المنطقة من خلال استراتيجية شراكة مع إيران تقوم على مسارين أحدهما يتمثل في فتح مسار تفاوضي إيراني- خليجي، لأنهاء الصراعات في المنطقة، والأخر يتعلق بالسعي للوصول لاتفاقيات تحد من امتلاك السلاح عند الطرفين، بما يؤدي إلى اطمئنان الجميع. الكاتب تطرق في مقاله الذي ترجمته "جاده إيران" للأسباب التي ساهمت في خلق هذه الفرصة، معتبرًا أنها الطريق الأفضل لخروج أميركا من المنطقة والتفرغ للمواجهة الوشيكة مع الصين.
لطالما كان “احتواء إيران” هو محور جهود الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، مِن نشر القوات إلى عقد الصفقات الدبلوماسية، لكن حتى الآن، فشلت سياسة الاحتواء إلى حد كبير. عام 2018، انسحبت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي لعام 2015 ومارست أقصى ضغط على إيران، حتى أنها أرسلت 20 ألف جندي إضافي إلى الشرق الأوسط، ومع ذلك زاد التهديد الإيراني فقط. وقامت إيران بتفعيل مشاريعها النووية والصاروخية ودعمت حلفاءها من الفصائل المسلحة في المنطقة وشغلت الطائرات بدون طيار المتطورة والقدرات السيبرانية. يزعم منتقدو الاتفاق النووي الإيراني أن الاتفاق فشل في وضع حد لهذه التهديدات، ويصرون على أن أي اتفاق جديد مع طهران يجب أن يتعامل بجدة معها.
التسوية الشاملة غير واقعية، ببساطة لن تتخلى إيران عن الأهداف الإستراتيجية التي استثمرت فيها الكثير من الأموال والوقت. وستتردد في تقديم تنازلات كبيرة في ظل انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الموقع عام 2015. لذا مِن الأفضل للولايات المتحدة أن تبذل جهدًا دبلوماسيًا مستدامًا، جهد يسعى إلى حل نزاعات عددة وإبرام إتفاقيات مُلزمة للحد من الأسلحة.
يمكن لمثل هذه الجهود الدبلوماسية المستدامة أن تبني الثقة التي تحتاجها إيران للتوصل إلى اتفاقيات شاملة مع الولايات المتحدة ومع جيرانها. قد لا يميل الرئيس الحالي للبيت الأبيض إلى إتباع الطرق الدبلوماسية مع طهران، ولكن يجب على الإدارة الجديدة أن تسلك نهجًا مختلفًا في الشرق الأوسط، نهج يعتمد بدرجة أقل على القوة العسكرية، وأكثر على قوة المفاوضات الدبلوماسية والتي تعتبر كل قضية قابلة للحل بناءً على مكاسب الأطراف المتنازعة مما يمكن أن يخفف التوترات، ويحد مِن النزاعات، ويقلل من التهديدات، وذلك عوضًا عن التمسك بحل شامل قد لا يأتي أبدًا.
الحوافز الإيرانية
يجب أن يكون “الإستقرار الإقليمي” هو هدف الدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط. فبمجرد تحقيق هذا الهدف يمكن للولايات المتحدة أن تقلل من وجود قواتها بسهولة أكبر. في عام 2015، حاولت الولايات المتحدة تنفيذ هذا السيناريو بشكل متسرع، فقد رأى المسؤولون أن الإتفاق النووي مع إيران وسيلة لتسريع رحيل القوات الأميركية، بغض النظر عن حالة التوتر المحيطة. ولتهدئة الحلفاء القلقين، قامت واشنطن بالتوقيع على عقود بيع لأسلحة تزيد قيمتها عن 30 مليار دولار إلى الدول العربية في الخليج، وهي تشكل زيادة كبيرة بالفعل لعمليات بيع الأسلحة إلى تلك الدول. وردت إيران على هذا الحشد العسكري من خلال زيادة استثماراتها في أنظمة الصواريخ والقوات بالوكالة وقدرات الأسلحة المتطورة. لم يؤجج الاتفاق النووي في حد ذاته عدم الاستقرار الإقليمي، كما ادعى منتقدوه، ولكن الطريقة التي أشعلت بها الولايات المتحدة سباق تسلح إقليمي فعلت ذلك.
الصراعات التي يعاني منها الشرق الأوسط على سبيل المثال: الحروب الأهلية في ليبيا وسوريا واليمن، والاضطرابات في العراق ولبنان، تضع واشنطن في مأزق. فبقاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لحماية الوضع الراهن الذي بات لا يحظى بشعبية على نحو متزايد تبعاته صارت مكلفة حيث النزاعات باتت لا يمكن حلها بل يمكن أن تتحول إلى حروب أكبر، أو يمكنها المغادرة وترك الطبقات تتساقط فوق بعضها البعض، مما يؤدي إلى مزيد من الصراع بينما تتدافع الدول لمليء الفراغ، ولن تتشاجر الدول العربية مع إيران فحسب، بل ستتدخل أيضًا إسرائيل وتركيا، ثم الصين وروسيا. ستجد إيران مساحة أكبر للمناورة في المنطقة الخليجية لأنها تضغط على جيرانها عسكريًا وتستغل النزاعات بين الممالك في المنطقة، ستكون النتيجة هي ما سعت سياسة “الاحتواء” الأميركية إلى منعه في العقود الأربعة الماضية.
لتحقيق الاستقرار الإقليمي حقًا، بحيث تنسحب الولايات المتحدة بشكل بناء من الشرق الأوسط، يجب على واشنطن أن تأخذ نهجًا جديدًا، نهج يأخذ في الاعتبار مخاوف وشكوك قوى المنطقة، بما في ذلك إيران. يمكن للولايات المتحدة أن تبدأ بالعودة للاتفاق النووي الإيراني الممزق لعام 2015، والذي يوفر الضوابط التي تريدها واشنطن بشأن برنامج إيران النووي مقابل تخفيف العقوبات التي تعتبر طهران أنها اكتسبتها من خلال امتثالها. وعندها فقط يمكن للولايات المتحدة أن تدفع باتجاه مزيد من المحادثات وتشديد الإجراءات الوقائية. وبشكل منفصل، يجب على المسؤولين الأميركيين السعي لتهدئة النزاعات الإقليمية، مثل الحرب في اليمن. وسيتطلب القيام بذلك تفهم أفضل من الولايات المتحدة لأولويات جميع اللاعبين في المنطقة.
لم يؤجج الاتفاق النووي في حد ذاته عدم الاستقرار الإقليمي، كما ادعى منتقدوه، ولكن الطريقة التي أشعلت بها الولايات المتحدة سباق تسلح إقليمي فعلت ذلك.
يعتبر خصوم إيران الرئيسيون – المملكة العربية السعودية والحليفان الجديدان إسرائيل والإمارات العربية المتحدة – صواريخ إيران والفصائل التابعة لها دليلاً على أجندة توسعية. لكن إيران ترى في قدراتها ضوابط ضرورية للتفوق العسكري التقليدي لخصومها. وتعكس تصرفات طهران في المنطقة حالة انعدام الأمن العميقة في دولة فارسية شيعية محاطة بقوى عربية سنية مدعومة من الولايات المتحدة. لا تزال ذكرى غزو العراق واحتلاله لأجزاء من جنوب غرب إيران في الثمانينيات تشكل وجهة نظر إيران الاستراتيجية. منذ الحرب الدامية بين إيران والعراق، نجحت إيران في تجنيد حلفاء ووكلاء وحافظت على مواقع نفوذ داخل الدول العربية كجزء مما يسميه الإيرانيون استراتيجية “الدفاع الأمامي”.
منذ الغزو الأميركي للعراق، شجع انهيار النظام في العالم العربي إيران على اتباع هذه الإستراتيجية “الدفاع الأمامي” لكنه دفعها أيضًا إلى التوسع. وفي السنوات الأخيرة احتج الناس في العراق ولبنان على التدخل الإيراني في بلادهم. وأدى التصعيد الخطير للتوترات مع إسرائيل إلى “حرب ظل” استنزافية كما يتضح من القصف الإسرائيلي لأهداف إيرانية في العراق وسوريا، وتفجيرات غامضة في منشآت نووية وصاروخية إيرانية، وهجمات إلكترونية متبادلة. وتخشى إسرائيل من أن يؤدي توسع إيران في سوريا إلى تطويقها، فإيران تدعم بالفعل حزب الله في لبنان، وحماس في قطاع غزة.
لا تريد إيران تأجيج القومية العربية المعادية لها، ولا تريد الحرب مع إسرائيل، وإذا أرادت التراجع عن استراتيجيتها الدفاعية الأمامية، فسيتعين عليها محاولة إصلاح العلاقات مع خصومها الإقليميين. ومن غير المرجح إجراء مفاوضات مباشرة بين إيران وإسرائيل، لكن المفاوضات بين إيران وخصومها العرب يمكن أن تساعد في معالجة بعض المخاوف الإسرائيلية. على سبيل المثال، ستعمل الاتفاقيات الإقليمية التي تحد من عدد ومدى الصواريخ في ترسانة إيران على تهدئة المخاوف بين جيران إيران العرب وكذلك في إسرائيل.
دفع طهران إلى الطاولة
يمكن للولايات المتحدة أن تشجع إيران على أن تكون قوة بناءة أكثر في المنطقة إذا فهمت مصالح طهران بشكل أفضل. تريد إيران من الولايات المتحدة إنهاء سياسة الاحتواء، وسحب العديد من القوات الأميركية إن لم يكن كلها من المنطقة، والاعتراف بأن إيران قوة إقليمية لها مصالح إقليمية مشروعة. على مدى السنوات الأربعين الماضية، اعتمدت إيران على المواجهة لتحقيق هذه الأهداف، لكن المواجهة فشلت في تحقيق أهدافها. كما دفع مقتل قاسم سليماني، الجنرال الإيراني المسؤول إلى حد كبير عن تنفيذ استراتيجية المواجهة، في كانون الثاني/ يناير، بإيران والولايات المتحدة إلى حافة الحرب، وأوضح ذلك حدود السياسة الإيرانية. كما أدت السياسة الخارجية المتعسرة لطهران إلى تفاقم الصعوبات الاقتصادية والاضطرابات السياسية في الداخل، ومن المرجح أن يتعامل قادة إيران مع هذه النتائج السلبية إذا عرضت الولايات المتحدة طريقًا بديلًا. بالتأكيد، هُم متشككون بالفطرة من مبادرات الولايات المتحدة ووعودها بالتسوية. ولكن كما كان الحال عندما تعاملت إيران مع إدارة أوباما، فإن قادة إيران متجاوبين مع الجهود الدبلوماسية الجادة التي قد تجعلهم أقرب إلى الأهداف التي استعصت عليهم حتى الآن.
لذا يجب أن تُبني العملية الدبلوماسية اللازمة بواسطة هندسة معقدة للمحادثات على مسارين، الأول يجمع محاورات تربط إيران والأنظمة الملكية في المنطقة الخليجية والولايات المتحدة. ويسعى فيه الدبلوماسيين لتحقيق الاستقرار في المنطقة من خلال إنهاء الصراعات في سوريا واليمن ودعم الدول الهشة مثل العراق ولبنان، بما في ذلك وضع مواثيق جديدة لتقاسم السلطة. وفعلت إيران والسعودية ذلك مرة من قبل، بتطبيق اتفاق الطائف لعام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان. وحققت إيران والولايات المتحدة شيئًا مشابهًا في اتفاقية بون لعام 2001 التي أعادت تشكيل السلطة في أفغانستان بعد سقوط طالبان.
تريد إيران من الولايات المتحدة إنهاء سياسة الاحتواء، وسحب العديد من القوات الأميركية إن لم يكن كلها من المنطقة، والاعتراف بأن إيران قوة إقليمية لها مصالح إقليمية مشروعة
والمسار الثاني، يحتاج المفاوضون إلى معالجة المخاوف بشأن برنامج إيران الصاروخي واستخدامها للجماعات المسلحة في المنطقة، ويجب أن يسعوا جاهدين لبناء اتفاقيات إقليمية بشأن المدى والقدرات المسموح بها للصواريخ، وحجم التعزيزات العسكرية التقليدية، ونشر تقنيات الأسلحة الجديدة. قد تساعد مثل هذه الاتفاقات في إقناع إيران، على سبيل المثال، بتقليل الدعم للجماعات التي تعمل بالوكالة عنها في المنطقة. فطهران تقيس استثماراتها في هذه الجماعات على القدرات العسكرية لخصومها. إذا كان لديها القليل من الخوف من منافسيها، فقد تشعر بأنها أقل اضطرارًا لدعم وكلائها في العراق ولبنان وسوريا واليمن.
سيحرز المفاوضون تقدمًا على المسارين، المسار الأول نحو تسوية النزاعات الإقليمية، وعلى المسار الثاني نحو الحد من تطوير الأسلحة النووية والحروب بالوكالة. ومن خلال القيام بذلك، فإنهم سيضعون الأساس لاتفاقيات أوسع نطاقًا، بما في ذلك واحدة بشأن الأمن البحري في الخليج العربي بين إيران ودول الخليج والولايات المتحدة. في النهاية، يجب أن يكون الهدف هو صياغة إطار أمني إقليمي، وصياغة مؤسسية في الشرق الأوسط شبيه بمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا أو الاتحاد الأفريقي.
صحفية إيرانية تقترح “تقسيم مناطق النفوذ” لتسوية مرحلية بين إيران والسعودية
اللحظة المناسبة
تعيد الولايات المتحدة التفكير في سياستها المتعلقة بالشرق الأوسط بشكل أكثر شمولاً من أي وقت مضى منذ الثورة الإيرانية عام 1979. فالإضطراب الداخلي المتزايد والمواجهة الوشيكة مع الصين يجبران الولايات المتحدة على النأي بنفسها من التورط في المنطقة التي يشعر كثير مِن المراقبيين بشكل متزايد أنها فقدت أهميتها الاستراتيجية.
نفس القوى الهيكلية التي تجبر واشنطن على إعادة التوازن إلى أولوياتها العالمية تمزق الشرق الأوسط أيضًا. حيث ضرب فيروس كورونا إيران بشدة، مما دفع اقتصاد البلاد المتعثر إلى حافة الانهيار، وأدى انخفاض أسعار النفط والركود الاقتصادي العالمي المطول إلى إلحاق الضرر بالمملكة العربية السعودية وحلفائها. إن جسامة الكارثة ستجبر الجميع على إحداث تحولات في الأولويات الوطنية. سيكون لدى إيران ودول المنطقة الخليجية رغبة أقل في سباقات التسلح أو الإنفاق السخي على الحلفاء والوكلاء الإقليميين. بالفعل، بدأ النقاش بين إيران والإمارات العربية المتحدة. ويبدو أن كل من إيران والمملكة العربية السعودية تميلان إلى إنهاء الحرب في اليمن. كما سحبت طهران بعض قواتها من سوريا وانسحبت مِن العراق، ودعمت انتخاب رئيس وزراء تفضله الولايات المتحدة.
الظروف مهيأة لدبلوماسية تخفف من حدة التوتر في المنطقة وتعزز الاستقرار. لذا يجب على الولايات المتحدة أن تستغل هذه اللحظة أو تخاطر بإهدار فرصة نادرة وحيوية.
تسمية الكاظمي.. حين يتفق شمخاني وبومبيو
المصدر/ Foreign Affairs