الجادّة: طريقٌ في اتجاهين

القصة الإسبوعية المترجمة من سلسلة “آدم ها”: الأسطى يعقوب الحلاق

للمشاركة:

 

تستمر جاده ايران معكم في تقديمها للحلقة الاسبوعية من السلسلة القصصية “آدم ها”، للكاتب الإيراني أحمد غلامي، وتنتقل بنا الزميلة ديانا محمود هذا الاسبوع الى زاوية جديدة من زوايا المجتمع الإيراني.

 

eb4ee354-753a-4f02-aaa6-eab22658e71b

 

جاده ايران- ترجمة: ديانا محمود

 

كل شخص كان يناديه باسم مختلف، متعدد الألقاب، في القهوة  كانوا ينادوه أحياناً “الأسطى يعقوب الحلاق” وأحياناً “الأسطى يعقوب بنا”. نساء الحارة اللاتي كن يُحضرن صبيانهم إلى الأسطى كُن يقلن له “سيد يعقوب”، أما الاصدقاء القدامى فكانوا على عهدهم يدعونه ب”يعقوب خان”، أما نحن اولاد الحارة فكنا نناديه ب “الاسطى يعقوب”، كل هذه الأسماء لرجل واحد، لكن هذا الرجل لم يكن ذو شخصية واحدة، أقصد ان تعامله في القهوة كان شيء ومع أولئك النسوة اللاتي يحضرن اولادهن شيء آخر، ومع الرفاق القدامى كان له شخصية مختلفة. أكثر الصبيان حظاً هم من كانوا يأتون إلى الأسطى يعقوب برفقة أخواتهن. فكان الأسطى يعقوب يحسن استقبالهم ويلف اعناقهم بقماشة نظيفة بيضاء ويحكمها بدبوس لا ينفذ منه الهواء، ودائما ما يقول لهم (برافو عليك يا بطل) .

اما في المقاهي فالأمر مختلف، الجميع هناك من ذوي المسابح الطويلة يستلقون على المقاعد وكأنهم لن يرحلوا عنها أبداً في اجواء ساخرة من الغيبة والنميمة والبصبصة. والأسطى يعقوب خبير في هذا المجال يعلم الصغيرة والكبيرة، من اختلف مع زوجته والسبب، ولماذا اخذوا فلان إلى المخفر، وفلان بكم باع منزله وهل ربح ام خسر، متى تخرج ابنة فلان من الحي ومع من تعود، كما لديه معلومات كاملة عن العلاقات السرية ومن يواعد من ودائماً وابداً كان ينهي غيبته بقوله : ( عجيبة الدنيا، الله أعلم نحن شو دخلنا).

ويبدو أنه لم يكن يتحدث عن نفسه وعن ماضيه أبداً  والرفاق القدامى ومن كانوا ينادونه يعقوب خان كانوا اهل سياسة ومن أصحاب المزاج العالي، وفي كل سهرة ينتهي الحديث السياسي بانتظار المجهول والقادم، أما حديث الكيف والمزاج العالي فكان يتمحور حول التصوف والعرفان الغريب وحوادثه، لكن مع كل هذا وذاك لا تغيب غيبة الناس أبداً عن الذهن حتى أنم يغتابون من هم تحت التراب.

على بعد خطوتين امام الأسطى يعقوب كتب على المرآة “الغيبة والسياسة ممنوعة” أي الامرين اللذين لم يستغني عنهما الأسطى يعقوب أبداً، في إحدى المرات قررنا أن نحفر للاسطى يعقوب حفرة مملوءة بالمكائد، والخطة كانت كالتالي نذهب إلى الصالون وهو غارق في الحديث والأكاذيب ونجلس ولا نخرج مهما قال لنا أو فعل، كنا ثلاثة أنا ومحمد وأمير. ذهبنا إلى صالون الحلاقة  وماكدنا أن نجلس حتى قال لنا الأسطى يعقوب: (ماعندي وقت اليوم، مو شايفيني مشغول)، فأجاب محمد (ما في مشكلة منقعد ليصير دورنا) فرد علينا: ( ما بيوصل الدور لعندكم) فقال امير (البابا قلنا نحلق نحن الثلاثة وألا بتكون ليلتنا سودا)، ووالد امير كان رئيس المخفر وعندما استدار الأسطى يعقوب ليقول لنا شيء رأى أمير ينظر له خلسة عبر المرآة فنظر إلينا ولم يقل شيء، وتابع قص شعر  الرجل الأبله ذو الشعر المجعد الوسخ الذي جاء مع صديقيه إلى محل الحلاقة.

قال الرجل ذو الشعر الأجعد : ( إي كمل شو صار بعدين)، نظر الأسطى يعقوب إلينا عبر المرآة ورأى إننا نطالع مجلة “كيهان” الرياضية فأكمل سرد قصته والرجل ذو الشعر الأجعد يتعجب ويقول ( عنجد) ويرد الأسطى (الله أعلم )؛ الجملة التي تدل على اكتفاءه من الغيبة في هذه القصة والانتقال إلى أخرى، وأحيانا كان الرجلين الآخرين يتدخلان في الحديث وينفجران ضحكاً.

اندمج الحضور بالغيبة والنميمة ونسوا تماما وجودنا، فبعد الرجل الأجعد جلس صاحبه ذو الشعر القاسي وهو ضعيف وطويل، فقلت (في مجال تمرر واحد منا بيناتهم) فرد الأسطى يعقوب وكأنه ينتظر منا حركة (ليش أنا قلتلكم انتظروا روحوا عند اللي ارسلكم لهون وقولوا له القص بالدور، بالدور) مشيراً إلى والد أمير. انتظرنا قليلاً حتى سنحت الفرصة وقلت (رح نتأخر كتير هيك) وهممت بالذهاب ولحق بيّ أمير ومحمد أيضاً مصطنعين الانزعاج. تنفس الأسطى يعقوب الصعداء ونحن خرجنا من صالونه وكتبنا على ثلاثة اوراق القصص التي كنا سمعناها للتو في محل الحلاقة ووضعناها أمام بيوت أبطالها ، أحدهم كان مخادعاً سرق أموال الناس والآن ارسل له البنك شيكاً ملغى، وآخر كانت ابنته غير خلوقة تخرج مع فلان وفلان، وآخر ابنه بدأ حديثاً تعاطي المخدرات والسرقة، وذهبنا إلى منازلنا بهدوء شديد.

صباح اليوم التالي كانت القيامة قد بدأت من أمام صالون الأسطى يعقوب، فقط ذلك الرجل والد الفتاة غير الخلوقة كان هادئاً خوفاً من الفضيحة، وجاء يشتكي الحلاق، لكن والد المدمن الجديد ونصاب الحي كانا غاضبين جداً وانهالا بالضرب على الأسطى يعقوب وكسرا زجاج المحال.

لم ينتهي الموضوع هنا بل وصل إلى المخفر الذي تدخل بالنصح والتهدئة، وانتهى. لكن الأسطى يعقوب تغير منذ ذلك اليوم ولم يعد يثق بأي أحد، وكل زبون يحكي له قصة يقول له (مالنا ومال الناس) وتحول صالون الحلاقة  إلى مقبرة ملؤها الصفير. ونحن لم نكن نعلم أنه كان ينتظر اللحظة المناسبة. ففي أحد الأيام ذهبنا أنا وأمير ومحمد إلى محل الأسطى يعقوب، وعندما رآنا تذكر ذلك اليوم وأدرك جيداً ما فعلناه به، ونحن إيضاً فهمنا إن هناك شيئاً ما ينتظرنا.

جلست على كرسي الحلاقة فرسم لي طريقاً في رأسي بالماكينة وقال (يبدو أنو في مشكلة بالماكينة أنزل لشوف وتعا محمد) صعد محمد على الكرسي ورسم له نفس الطريق وقال (بعتذر الماكينة معطلة شوفوا حلاق ثاني ) وجن جنوننا وبدأنا بالصراخ وطبعاً لم يفتح طريقاً برأس أمير لأنه يخاف من والده، وعندما رمانا خارج االمحل قال لنا (لا بقى تجسسوا ع العالم ها) وامير يضحك ويشير إلى رؤوسنا.

لم يتمكن الأسطى يعقوب من الانتقام من أمير لمدة خمسة عشر عام، ففي ليلة عرسه جاء إلى  صالون الأسطى يعقوب وقت نسي تماما ماذا فعلنا به، وجلس على الكرسي ليتزين وقال له (بس قصرلي شوي). الأسطى يعقوب تغير بعد هذه السنوات وغطى الشيب شعره قال له (تكرم يا عريس)، ونظر إليه خلسةً عبر المرآة، وبدأ  يقص له شعره بعناية مستخدماً الماكينة والمشط، لكنه فجأة أصيب بالجنون وبدأ يحلق رأس أمير بشكل عشوائي ويتساقط الشعر الأسود الناعم على الأرض  كأنه صوف خاروف، تنفس الأسطى يعقوب الصعداء بعد ١٥ سنة من السكوت الأليم عن الغيبة والنميمة والبصبصة.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: