الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة12 يونيو 2020 06:16
للمشاركة:

الإنسان والملل تحدي مستمر، وللتصوف كلمة الفصل

يثقل كاهل الانسان في القرن الواحد والعشرين ما يكفي من الهموم، مما يجعله يبث الشكوى من مما يحمله من هم، وغم وحزن معبراً بذلك عما يضيق ذرعاً منه، ( مللت الحياة، مللت نفسي، مللت العمل .. ) وإن لم يكن أمام الآخرين يكتفي بالشكوى لنفسه. باحثا بشكواه عن ما يريح قلبه مما أضناه خلال يومه الشاق، بين أقبية العمل وصفحات الكتب ومدرجات الأكادميات ووسائط النقل العامة وتصفح التواصل الاجتماعي.

ذات مرة طرحت سؤالا على صديقي لماذا انت تبذل كل هذا الجهد؟ .. فأجابني وبدون تردد ” ابحث عن ذاتي، لقد رسمت لنفسي صورة ما وسأظل أبحث عنها حتى أجدها، و أصبح كما رسمت ، لكني مللت وانا في طريقي اليها “

نجد المشكلة ذاتها اذا ما تمحصنا مشكلة كل واحد منا، الغاية هو أريد أن أكون ‘ أنا كما اريد’ والعائق هو ‘الملل’ وهنا تبادر لذهني معادلة صوفية للشاعر جلال الدين الرومي* خير من راح يفتش عن أبعاد الإنسان وغايته وسلوكه مرورا بصفاته وملابساته مقدما فلسفة صوفية حياتية خاصة بعنصر الانسان وليس غيره من الكائنات.

عالج برؤيته حالة الملل التي تزهق روح الانسان، وتضعف من عزيمته في مواجهة التحديات المفروضة عليه، سواء كان مادية أو معنوية، متسائلا

هل الجميع يعرف قدر انسانيته؟
ما علاقة الانسان بذاته؟
كيف يمكن للإنسان التمييز بين ذاته وعوالق الدنيا التي أعمت بصره عن إدراك ذاته ؟!

الإنسان والملل تحدي مستمر، وللتصوف كلمة الفصل 1

يفترض فيلسوفنا المتصوف مسألة هامة ويعتقد أن لابد على الجميع فهمها أن الانسان بذاته ليس فقط هو محور هذا الكون، بل هو الكون بأكمله.

كما أشار إلى ندرة ممن يعرفون قيمة ذواتهم وإنسانيتهم في الأرض، رغم أن الذات الانسانية هي مركزها -الارض-، عندما روي أنه قام -جلال الدين الرومي- ذات يوم وحمل مصباحاً بيده وراح يفتش عن إنسان في وضح النهار، وظنته أهل المدينة أنه أصيب بالجنون.

رؤية الشاعر المتصوف بالإنسان ترتكز على أن العنصر الانساني جُبل على فطرة طاهرة، وطينة تواقة للسمو والارتفاع، بينما تشدنا عوالق الدنيا وشهواتها نحو المستنقعات الآسنة والكدرة. أي “إلى سراب يحسبه الظمآن ماءً”.

مخبرا بني آدم جميعا في مشارق الدنيا ومغاربها وعلى تبدل الازمان والدهور، أن ما يضيق بالإنسان ذرعا هو “اللاذات” أي هي الزوائد التي قمنا بإضافتها على حياتنا دون أن نعي حتى أنها زوائد واضافات على ذواتنا، كما أنها لا تناسب طبيعتنا البشرية الطاهرة برأي الشاعر، بينما العاقل يدرك عندما يتفكر أن ما من مساحة أو فرصة ليضيق الانسان “بذاته”. فهي حقيقته وماهيته ولا بد من العودة إليها.

أي كل ما يثقلنا هموما وحزنا ومغبة ويشعرنا أننا على حافة الهاوية ومفارقين للحياة رغم أننا على قيدها ليس إلا هي” لاذات”، هاوية بنا إلى سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ، وأما كل ما يعرج بنا نحو تِلْكَ العُقْبَى الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا “هي ذاتنا بحقيقتها”.

خير دليل على هذا ما اذا تفكرنا بحال السمكة اذا أمعنا النظر بدورة حياتها داخل حوض من الماء، لا يخنقها الضجر داخل بيئتها في الماء، بينما تفارق الحياة بمجرد خروجها منه. لأنها الطينة التي جُبلت عليها.

وهذا هو الانسان يبدأ قلبه بالصدأ عندما يخرج من طينته (الطهارة) التي سبق وجُبل عليها منذ بدءِ التكوين.

الإنسان والملل تحدي مستمر، وللتصوف كلمة الفصل 2

يقول أحدهم يوما ما “مللت نفسي، مللت حالي “، ويجيب الفيلسوف المتصوف أن لا مساحة للملل بحضور الذات، مؤكدا بأن عدم حضور الذات الحقيقية للإنسان هي عين الملالة والضجر. فذواتنا أقرب إلينا من الماء للسمك.

منبهاً أولي الألباب من التيه في ظلمات الشيطان ومناشداً إياهم العودة للطهارة التي فقدناها في طريق الحياة الطويل مع مرور الزمن. منشداً شعراً:

“تا تو تاریک و ملول و تیره‌‌ای ** دان که با دیو لعین همشیره‌‌ای‌‌

حين يخيم عليك ظلام دامس وشدة الملل.. إعلم أنك وابليس أخوة بالرضاعة.”

أي حين تشعر أنه يخيم على قلبك سواداً مظلما، ولا تستطيع أن تكون شفاف مع ذاتك، عليك أن تخلع عن قلبك الستائر والحجب الشيطانية التي تحول دون رؤية ذاتك.

خطاب مولانا اليوم يدعو بني آدم كلهم أن يفتشوا عن حقيقة ذواتهم، وأن ينزعوا عن أنفسهم كل قيد أو غل يحول دون رؤية النور الذي بداخلهم.

محتجا برؤية مرشده الشاعر شمس التبريزي في هذا الكون قائلا: ” كيف يمكن للبذرة أن تصدق أن هناك شجرة ضخمة مخبأة داخلها؟”

معادلة مولوي تضاف إلى المبادئ والمنطلقات النظرية والأولية لكيمياء السعادة للإنسان.

الإنسان والملل تحدي مستمر، وللتصوف كلمة الفصل 3

إن خطاب جلال الدين الرومي يجد له على الساحة العالمية صدى واسعاً لما فيه من جانب إنساني، ولما يشعره إنسان اليوم من عطش لإنسانيته التي يتعذر الوصول اليها في ظل الظروف الراهنة.

كل بيت من أبيات ديوان مولانا جلال الدين الرومي يحمل مفهوما إنسانياً خالداً، لأن الرجل ينطلق من القرآن والسنّة برؤية صوفية متبحرة ليغور في أعماق محتوى الانسان بكل تعقيداته وملابساته.

*عاش جلال الدين الرومي في القرن الثالث عشر ميلادي وكان له قصة طويلة مع الترحال ولد في بلخ ووصل بغداد ماراً بنيسابور ومن ثم دمشق واستمر ترحاله حتى وصل لمدينة قونية – تركيا ملاقيا مرشده شمس الدين تبريزي لتتفتح أزهار ملكة الشعر خاصته بعد فراقه للتبريزي، وظل حتى مماته -الرومي- يقدم المواعظ والمحاضرات إلى مريديه ومعارفه وللمجتمع ،ليفارق الحياة هناك سنة 1273 م. عرف بالرومي ومولولي ومولانا ..

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: