الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة26 مايو 2020 19:39
للمشاركة:

عشرون عاما على الإنسحاب .. جنود إسرائليون لم يغادروا لبنان ابدًا

ذكريات لا تنضب من عقول الجنود الإسرائليين حول معاناتهم في جنوب لبنان، حيث لم تفلح صفحات الزمن التي انطوى منها عشرون عامًا في إغلاق سجل تلك الحقبة من الذاكرة الإسرائلية بشقيها المدني والعسكري. صحيفة هأرتس في مواكبتها السنوية للحدث سلّطت الضوء على شهادات بعض الجنود، اللذين أكدوا وفق المقال المترجم في جاده إيران، أنهم لم يغادروا لبنان، فكيف؟

بالرغم مِن مرور عقدين من الزمن على الإنسحاب الإسرائيلي من جنوبي لبنان، لا زالت ذكريات هذه الحرب تطارد أربعة جنود إسرائيليين عاشوها.
أمام جهاز الكمبيوتر الخاص به، يجلس الجندي “يوفال مالشي” بين حين وآخر ليفتح خرائط موقع غوغل ليتفقد الجنوب اللبناني.
“إنني أتفقد المكان الذي كانت فيه نقاط الإرتكاز العسكرية في قرية الريحان اللبنانية، وأنتقل إلى قرية كسرى لآرى ما الذي تغير في المكان” يقول
مالشي البالغ من العمل 46 عامًا، مِن شمال تل أبيب، والذي يعمل الآن مؤرخًا.
“لم يستطع عقلي تجاوز أحداث العام 1997، عندما كنت سائق دبابة في الجنوب اللبناني” يصارح مالشي صحيفة هآرتس الإسرائيلية، ويضيف “هناك الكثير في هذه الحقبة الزمنية، افكر على سبيل المثال في الصاروخ الذي كان مِن المفترض أن يصيب دبابتي”.
كانت سنة 1997 دامية، كارثة تلو الآخر، ففي فبراير/شباط، قُتل 73 جندي من لوائي النخبة ناحال وجولاني ومِن فيلق المدرعات، كما اصطدمت مروحيتان في سماء منطقة العمليات بجنوب لبنان، وفي سبتمبر/أيلول قُتل 12 فرداً من القوات الخاصة التابعة للبحرية في عملية إنزال خلف خطوط العدو تحولت لكارثة.
خلال هذه الأحداث، تأسست حركة إسرائيلية مُناهضة للحرب تدعي “الأمهات الأربع”، مُطالبة الجيش الإسرائيلي بالإنسحاب من جنوبي لبنان، وهو الهدف الذي تحقق في 24 مايو/آيار 2000 بعد ثلاث سنوات مِن تأسيس الحركة.
قٌتل صديقين لمالشي في لبنان أثناء الغزو في العام 1982، (حرب الـ 18 عام)، الآن، وبعد 20 عامًا على الإنسحاب الإسرائيلي مازال مالشي يشعر أنه يقود دبابته على الخطوط الأمامية للحرب.
خدم الجنود أريك سيغال، ليرون أفراهام، آدي دانزيجر نيغر على الحدود في التسعينات، ولازالوا يعيشون في هذه الحقبة بطريقتهم الخاصة.
تقول آدي دانزيجرنيغر: كانت هناك لافتة في نقاط التمركز العسكرية كُتب عليها “الدفاع عن الحدود الشمالية” لقد عشنا لهذا الهدف.
في منتصف التسعينات عملت دانزيجرنيغر ضمن فريق الفنيين في قسم رادار للإستخبارات والإستطلاع الميداني في تمركز عسكري في الجنوب اللبناني. كانت تشعر آنذاك بأهمية جنونية لعملها، لم تكن ترى أن هذا العمل مضيعة للوقت، لم يكن شئ ليثنيها عن إتمام عملها في الماضي أو الحاضر.
لم يكن الجدل السياسي والعسكري حول أهمية العمل العسكري في جنوب لبنان يشغل دانزيجرنيغر عن أداء مهمتها، مثلها مثل بقية الجنود، الذين لم يلقوا بال حتى لوعود إيهود باراك الذي تولى رئاسة الوزراء عام 1999 وتعهد بعودة الجيش الإسرائيلي إلى خلف الحدود.
تقول: اتذكر أنه في يوم زار الموقع العسكري وفد سياسي، وقام جنود لواء غولاني بتنظيف المكان وتزيينه، لكن العاملين مثلي في الرادار أثناء الليل، ناموا خلال النهار كالمعتاد، كان هذه مثال لمستوى اهتمامنا بالسياسة في ذلك الوقت.
تركت الخدمة العسكرية في لبنان ندوبها التي لا تُشفى على آلاف الجنود، وهذا بدون النظر للأهمية الإستراتيجية، فمعظم القوات المقاتلة التي قامت بمهام مختلفة في هذه الحرب، والذين لم يصابوا مازالوا يعانوا من الآثار النفسية السلبية، أما بالنسبة للآخرين، فالجميع يعاني بدرجات متفاوتة من الآلم.
أما أريك سيغال، الذي يمتلك شركة إستثمارية لفض المنازعات بواسطة المحتوى الرقمي فيقول: لم أتعرض لأي حادث صادم.
كان سيغال قائد دبابة في موقع كركوم الذي قام الجيش الإسرائيلي بتدميره خلال عملية الإنسحاب من لبنان، ولسنوات ظن سيغال أن الحرب في لبنان لم تترك أثراً دائماً عليه، ولكنه مؤخرًا أدرك أنه كان مخطئاً.
يقول سيغال: أنا اتأثر بشدة من الأصوات الصاخبة فهي تذكرني بأصوات إطلاق قذائف الهاون، كما أنني كلما رأيت أي مشهد لأطلاق رصاص أرتفعت لدي مستويات الأدرينالين، حتى خلال تنزهي في الحدائق أنظر بحذر خلف الأشجار تحسبًا لوجود مضادات للدبابات، يضيف سيغال: أنا أحلم أنني تعرضت لهجوم ليلي في المعسكر وكنت أبحث عن بندقيتي ولم أجدها. أحاول أن أحسن حالتي النفسية بمشاهدة مقاطع فيديو على موقع اليوتيوب.
“الآن، احتفل بمرور عشرين عام منذ مغادرتي لبنان، وآمل أن أتمكن من أن يغادرني ذلك المكان”، يقول سيغال.
في وحدة الكلاب بين عامي 1998 و 1999 خدم ليرون أفراهام، كان يتحمل مسؤولية كبيرة، فهو جندي شاب يصطحب كلباً ويقود خلفه قوة عسكرية وعليه أن يمشط المنطقة لتأمين تقدمهم. “كان هذا حملاً يثقل كاهلي”، يقول أفراهام.
يضيف أفراهام أن كلب الجيش “رامكو” أفضل كلب، فقد ساعد القوات على البقاء على قيد الحياة، وقام بعمليات تمشيط في لبنان نهارًا وتفقد الاكمنة ليلًا، وتمكن من إكتشاف عدد كبير من القنابل قرب الحدود. “عثر رامكو على عشرات المتفجرات وانقذ العديد من الارواح، لقد اعتمدت على رامكو بشكل كامل وبفضله توفر لي ولجنودي الحماية”.

خسرنا الحرب


24 مايو 2000، العنوان الرئيسي لـ “هآرتس” كان الانسحاب بعد 18 عامًا. بجانب هذا العنوان كانت هناك قائمة بالأحداث المهمة التي رافقت عملية الانسحاب، مثل: تفجير الجيش الإسرائيلي لنقط الإرتكاز في بوفورت وكركوم. وسيطرة حزب الله على مواقع الجيش في جنوبي لبنان، وتدفق آلاف اللبنانيين على المعابر الحدودية مع إسرائيل.
كتب مراسل هآرتس شارون غال آنذاك: “غادر الجيش الإسرائيلي في حالة مِن الذعر، الجنود فروا”. تحول غال فيما بعد لحزب إسرائيل بيتنا التابع ل أفغدور ليبرمان وهو الآن صحفي يميني.
قال أحد الجنود “لقد خسرنا الحرب،” وقال جندي آخر “حركة الأمهات الأربع رفعت مِن معنويات حزب الله”، وقال جندي ثالث “لم يكن علينا أن نغادر، لكن بالنسبة لأمي، من الجيد عودتي للمنزل”.
منذ الإنسحاب، بقى الجدل حول أمن الحدود الشمالية وتداعيات الإنسحاب قضية سياسية، أما المقاتلين القدماء فمن جانبهم، صنعوا صفحة على موقع التواصل الإجتماعي فايسبوك تحت عنوان “قصص من لبنان، ماذا حدث في نقاط الإرتكاز العسكرية” لكي يعبروا عن ذكرياتهم سواء كانت مؤلمة أم طريفة.
الجندية فنية الردار نيغر لديها قصة تعد طريفة نوعًا ما، فقبل أن تتولى مهام عملها قُتل 5 جنود بتاريخ 25 أكتوبر/تشرين الأول 1992 في انفجار بالجانب الشرقي للمنطقة الأمنية، كان أحد القتلى صديق مقرب لها يدعى نيف أمويال تابع لسلاح المدرعات، بعد هذا الحادث أصبح لبنان جزء من حياة نيغر على حد قولها.
عام 1994 تولت نيغر عملها، وكان من النادر ان يكون هناك جندية على الخطوط الآولى للقتال، ولكنها طلبت هذا وتم توزيعها على نقطة تسيبورن بالقطاع الشرقي قرب كيبوتس منارة. وفي أحد ليالي 1995 أمطر الموقع العسكري بقذائف الهاون لعدة ساعات، أمر قائد المعسكر بدخول الجنود للمخبأ.
بقيت أتابع الموقف وانتظر أن يتم الأذن لي بترك مكان خدمتي، وتأخر الرد، ولكن كل شئ كان آمناً، ماعدا الرف الذي كان به زجاجات الشمابنيا، وقد تسببت القذائف في هز المعكسر وكنت قلقة على تكسر الزجاجات، فقد كانت الشمبانيا بمثابة جائزة لكل جندي يقتل مقاتلاً من حزب الله. كما كنت قلقة بأن تتساقط الزجاجات فوقي.
بعد 40 دقيقة وصل الرد بالموافقة لي على الانضمام إلى رفاقي الجنود في الملجأ، وتركت قذائف الهاون ورف زجاجات الشمبانيا خلفي. وبعد فترة، جاءت الأوامر بإخلاء المقاتلات من نقاط الإرتكاز الدفاعية.
كان لايزال إيهود باراك قائداً للجيش، ولم يكن يريد أن يتم إستغلال مقتل جندي داخل الاراضي اللبنانية ضده، وقد يكون خطئي في طلب الخدمة هناك، تقول نيغر.

مثل روبوت مُدرب جيدًا

لدى الجندي أبراهام قصة مسلية عن الكلب رامكو، ففي معسكر كركوم لم يكن هناك من مكان مخصص للكلاب إلا أنه رفض التخلي عن صديقه المفضل.
يقول أبراهام: أخبرت قائد الكتيبة أن كلبي لن ينام مكشوفًا، ولن يبقى في الخارج ليتعرض للقصف، وصدرت الأوامر بإذن خاص للكلب رامكو لكي يبقى بالداخل مع الجنود.
أما ذكريات سيغال فهي أشبه بفيلم حربي أكثر من كونها مسلية، وأيضًا قد شهدها في معسكر كركوم، بتاريخ 23 مايو 2000، عشية يوم الإنسحاب، استيقظ سيغال على صوت صراخ وإطلاق رصاص، المعسكر كان يتم مهاجمته، والرصاص يضرب من كل النواحي تقريبًا.
كان سيغال يبعد 50 متر عن دبابته ما جعله عرضة لإطلاق الرصاص، لذا قرر الركض واطلاق الرصاص بيد واحدة لقتل أي مهاجم.
وعندما وصل للدبابة، بدأ بتشغيلها كروبوت مدرب جيدًا، مستغلًا كل ما تدرب عليه خلال الثلاث سنوات السابقة. يقول سيغال في هذه الأثناء كنت اسمع اصوات إطلاق نار وإنفجارات قريبة لم أسمعها من قبل، كانت دبابة كاملة منفجرة في الهواء.
كان هناك 2 من المقاتلين بين الأشجار، قمت بإستخدام المدفع الرشاش، وانهيت شحنة كاملة من الذخيرة في بضع ثواني.
ثم سمعت تقارير إذاعية بأن حزب الله قد استولى على دبابات جيش لبنان الجنوبي، كنت أرى الدخان في الآفاق واسمع تحليق طيران كثيف في الأجواء، وفي تلك اللحظة تذكرت أنني بحاجة لشخص ما يتصل بأمي ويخبرها أنني بخير.
خلال هذه المعركة قتل ما لا يقل عن 10 مقاتلين لحزب الله، وشاركت كل من المدفعية والمشاة والدبابات والطائرات والقناصة لتصدي للهجوم، وقد غادرت قوتنا بسلام المعسكر، ورفع العلم، وأثبت جميع الجنود حضورهم. وفي وقت لاحق، تم الإنسحاب وتفجير المعسكر، وعبر سيغال الحدود إلى إسرائيل واصفًا ان خروجه من لبنان كان أجمل وأكثر لحظات حياته هدوءًا. وفي تمام السادسة صباحًا، اتصل بوالدته.
كان مالشي سائق الدبابة والذي ينتج الآن بودكاست لمواضيع تاريخية آخر من شهد اطفاء الأنوار في معسكرات الجيش الاسرائيلي في لبنان، عندما عمل مالشي قبل ثلاثة سنوات لم يكن أحد يحلم أنه سيكون هناك إنسحاب.
لم تغادر خيال مالشي ذكرى ألكسندر زيد وجوزيف ترومبلدور الضابطين اللذين رفضا الإنضمام للجيش الروسي وفضلا السقوط على أرض إسرائيل كونهما يعرفا على الأقل ما كانا يضحيا مِن أجله. بقت بعض التجارب الآخرى تلاحقه، يتذكر مالشي صديقه إيال شيموني.
على سبيل المثال، ذات مساء في سبتمبر 1997، يقول سيغال “صنعنا الشاي، ولم نوقظ الأفراد لتولي الخدمة بعدنا، جلسنا طويلًا نتحدث عن الحياة، والوطن، وكان إيال يفكر في ذهابه للمدرسة، وقد عزمني لزيارته في الكيبوتس. وبعد أسبوعين قتل شيموني بعدما تفجرت دبابته بصاروخ.”
بعد شهر، شهد مالشي الموت ثانية، هذه المرة مع صديقه رونين حيون، على مدار ثلاثة أيام خلال المعارك تشاركا الحديث عن كل شئ، حكى حيون عن صديقته تامي وعن تأليفها للموسيقى، كما جعل مالشي يشاهد التحسينات التي قام بها داخل وحدة قيادة الدبابة.
رصدوا فجأة هدف، وتحركا كلاهما للموقع، “طُلب من رونين حيون أن يهاجم الهدف بدلًا مني، ولكن تعرضت دبابته لقذيفة أودت بحياته، ركضت لدبابة المدمرة رأيت جثمانه وهم يخرجونه، وحتى يومنا هذا لن أنسى تلك الرائحة التي كانت تفوح منها. أخذت أغراض رونين ووضعها في جيبي وبعد أسبوع سلمتهم إلى والديه.”

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: