الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة19 مايو 2020 01:59
للمشاركة:

براغماتية حافة الهاوية: هل تستعد طهران وواشنطن لصفقة قرن؟

مجموعة تحولات متوقعة في إيران واميركا خلال الأشهر القليلة المقبلة، بالتوازي مع احتدام للتوتر كاد أن يصل في الأسابيع الماضية إلى حد المواجهة، بل إن البعض وصف الأشهر الاربعة الأولى من العام الحالي بأشهر بوابة الهاوية بعدما كان العام السابق عام حافة الهاوية.

هل يحل علي لاريجاني مكان علي شمخاني امينا لمجلس الأمن القومي في إيران؟ نقلت وكالة فارس المقربة من الحرس الثوري هذا سؤال وقالت إن “متابعين” يعتبرون رئيس البرلمان الذي تنتهي ولايته خلال الأيام القادمة مرشحا للحلول مكان الأمين الحالي للمجلس، لكن مصدرا سياسيا في طهران قال لجاده إيران إن لاريجاني رفض الطرح.

وإذا صدقت توقعات الوكالة الإيرانية أعلاه، فهذه ستكون المرة الثانية التي يتولى فيها لاريجاني المنصب بعد 2005 عندما خلف حسن روحاني في المنصب مع بداية عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد وتولى منذ ذلك الوقت مسؤولة المفاوضات حتى حل مكانه سعيد جليلي في تشرين أول/ أكتوبر 2007، وتولي لاريجاني بعد ذلك رئاسة البرلمان في ربيع العام 2008.

في نهاية شباط فبراير الماضي حلّ لاريجاني ضيفا على سوريا ولبنان، حينها طرحت أسئلة عديدة حول سبب الزيارة لا سيما وأن الرجل لم يعد فعليا له ذات الدور السابق مع انتخاب مجلس شورى جديد وابتعاده عن رئاسة البرلمان بحكم عدم ترشحه أصلا للانتخابات. حينها غرد الصحفي الإيراني سياوش فلاحبور متسائلا عما إذا كان لاريجاني يتحضر لدور جديد على مستوى المنطقة بعد اغتيال قائد قوة القدس الفريق قاسم سليماني.

ما كتبه فلاحبور في شباط فبراير تقاطع مع ما توقعه مدير مكتب قناة الجزيرة في طهران عبد القادر فايز في سلسلة تغريدات على تويتر أيضا حيث كتب “ربما نشهد خلال 3 أشهر قادمة بعض التغييرات المهمة في طهران:

  • تغيرات على صعيد المناصب والمسؤوليات، فضلا عن تغيير في مرجعيات بعض الملفات المهمة.
  • أي تغييرات من هذا النوع قد تفسح المجال لعودة فكرة فتح الطريق مع واشنطن بهدف استبدال الفراغ بمعادلة ما تكون مقبولة على الأقل.

هذه التغييرات المتوقعة والمفترضة يدور الحديث حولها قبل عام كامل من الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقررة في أواخر ربيع 2021، والتي ستجري بدورها بعد أشهر قليلة من انتخابات الولايات المتحدة لرئيسها الجديد. رئاسيات إيران وأميركا لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، هنا نتحدث عن اتجاه الأمور نحو التصعيد أو التهدئة، ولا نقول إن فوز طرف في أميركا سيرجح طرفا مقابلا في طهران، إنما يغلب اتجاها في العلاقة، فإما براغماتية اصلاحية، وإما ما يمكن أن نطلق عليه اسم البراغماتية الهجومية.

في العلاقة بين أميركا وإيران، لا سيما خلال ثلاثة عقود ماضية من قيادة آية الله علي خامنئي، رأينا عدة أطوار من البراغماتية، يمكن تلخيصها كالتالي:

  • براغماتية اقتصادية خلال فترة حكم الرئيس اكبر هاشمي رفسنجاني بين 1989 و 1997، شهدت تبادل رسائل مع إدارتي الرئيس جورج بوش الأب ولاحقا بيل كلينتون، لكنها جوبهت بسياسة الاحتواء التي اتبعتها واشنطن ووصفها إيران بدولة مارقة على حد تعبير سفير أميركا السابقة في الأمم المتحدة حينها، مادلين أولبرايت، والتي أصبحت لاحقا وزيرة للخارجية في فترة كلينتون الثانية.
  • براغماتية مثالية حالمة خلال ولاية الرئيس محمد خاتمي صاحب مشروع حوار الحضارات الذي أطلقه في الأمم المتحدة في مواجهة نظرية صدام الحضارات للمفكر الأميركي المعروف صامويل هنتغنتون. الحوار الأميركي الإيراني كاد أن يصل إلى مراماته المقصودة، لكن عملية بناء الثقة لم تكتمل، والتحول في الإدارة الأميركية من كلينتون إلى بوش الابن الذي وضع إيران ضمن ما اطلق عليه محور الشر هدم مسارا حالما للتسوية، مع أن إيران تعاونت بشكل كبير مع واشنطن في أفغانستان وتعاملت بحياد عملي مع غزو العراق الذي تحول لاحقا لهدية لطهران لصناعة أوراق ضغط على واشنطن.
  • براغماتية هجومية فجة مع محمود أحمدي نجاد، الرئيس الأكثر إثارة للجدل في إيران خلال العقود الماضية. رفع أحمدي نجاد سقف الخطاب بشكل كبير، لكنه في ذات الوقت كان يرسل رسائل علنية عبر الصحف الأميركية تغمز من قناة الحوار. الأهم أن فترة أحمدي نجاد ورفعه مستوى التخصيب إلى 20٪ وعدد الطرود المركزية للتخصيب إلى أكثر من 19 ألفا، قدمت أوراق التفاوض الصلبة للحكومة التي ستأتي لاحقا، بل إن اللقاءات الأولى وكسر الجليد مع الأميركيين في عمان جرى في هذه الفترة المتوترة.
  • براغماتية عملية كتب لها أن تكون سيئة الحظ مع الرئيس حسن روحاني ورئيس دبلوماسيته محمد جواد ظريف. كل شيء في المسار جرى كما هو مكتوب في نظريات العلاقات الدولية، تمهيد ولقاءات ورسائل وأوراق تفاوض وطاولة واتفاق، والأهم إطلاق المرشد خامنئي قبل كل ذلك شعار المرونة البطولية وتأصيله لها من خلال الإشارة إلى صلح الإمام الحسن بن علي مع معاوية بن أبي سفيان. ما لم يكن بالحسبان أن الاتفاق الذي وصف حينها بالتاريخي واتفاق القرن لن يصمد أكثر من عامين وسيبدأ مسار السقوط مع مجيء إدارة جديدة في واشنطن. بل وسيتحول مع الوقت ثنائي الدبلوماسية والواقعية في إيران، روحاني وظريف، من صناع مفاتيح الحل إلى مرمى سهام للأميركيين ولبعض الإيرانيين.

سبق الفترات الأربعة في زمن خامنئي فترة خامنئي في زمن آية الله روح الله الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية. في العقد الأول من الثورة، شكل الثنائي خامنئي، رئيس الجمهورية، ورفسنجاني رئيس البرلمان، رأس حربة سياسة الباب المفتوح التي أعلن عنها الأول في خطاب له في العام 1984. كانت المواجهة قاسية مع نائب الولي الفقيه حينها حسين منتظري، ورئيس الحكومة مير حسين موسوي، وكلاهما كان يتبنى منهج الثورية المثالية، لكن هذه المواجهة ما لبثت أن أخذت منحى آخر بعد أزمة إيران كونترا والمفاوضات السرية الأميركية الإيرانية والتي تسببت لاحقا في زلزال على مستوى القيادة في إيران، أطاح بمنتظري الذي قام مقربون منه بتسريب القصة لمجلة الشراع اللبنانية، وما أدى الأمر لاحقا إلى تداعيات من قبيل اعدام مهدي هاشمي، وهو شقيق صهره٬ ورئيس مكتب حركات التحرر في الحرس الثوري، وهو المتهم الرئيس بتسريب القصة بعدما اشتكى أحد السماسرة إلى منتظري عدم استلامه مبالغ متفق عليها من طهران.

ابتعاد منتظري ابتداء، ثم ومع وفاة الخميني تنحية موسوي وإلغاء منصب رئاسة الوزراء، ثبت المنهج البراغماتي في الحكومة، وإن كان خامنئي في موقعه كخليفة للخميني أدرك جيدا أن قيادة الثورة تعني بطبيعة الحال أن يتبنى إلى النهاية مبادئ الثورة وأهدافها، وأن يكون مثله كمثل جدار الحماية للثورة من كل العوامل الخارجية والداخلية، دون أن يمنع البراغماتية في أداء الحكومات المتعاقبة. هكذا جرى تثبيت معادلة أصبحت مدماكا في السياسة الخارجية الإيرانية، وهو ما يوصف بسياسة الصوتين والوجهين واليد والقفاز، وهي في أحيان كثيرة تبدو متناقضة ومتخبطة، لكن إذا ما نظرنا إليها من زاوية ثانية، سنجد أنها ربما تتكامل بشكل أو بآخر، فالقرارات الكبرى في بلد كإيران لا يمكن أن تتخذ بدون رأي المرشد، أو لنستعير من الكاتب الإيراني المعارض كريم سجادبور، ليس بالضرورة أن يأخذ المرشد في إيران كل القرارات، لكنه قطعا يعلم بها كلها.

يعيدنا هذا إلى الاتفاق النووي مجددا، والذي لم تخرج منه إيران رغم كل التهديدات التي ساقتها خلال العامين الماضيين، ورغم عدم تطبيق الاتفاق من قبل الأوروبيين وانسحاب الولايات المتحدة منه. إيران تراجعت عن تنفيذ بنود الاتفاق مع الإبقاء على الإطار السياسي له مع الالتزام بالعودة لحظة عودة الأطراف الأخرى لتطبيقه، ولهذا علاقة ببند في الاتفاق سيبدأ الحديث حوله عما قريب، بند انتهاء حظر شراء السلاح على طهران، والذي يحين موعده في تشرين الأول/ اوكتوبر المقبل. البراغماتية مجددا خيط طويل يمتد إلى حافة الهاوية ويتوقف هناك بانتظار موعد جديد.

ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، يعتقد بعض المحللين أن خسارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانتخابات، إن حصلت، ومجيء ادارة ديموقراطية سيعني بشكل اوتوماتيكي عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي بشحطة قلم، وهو ما يمكن توصيفه بخطأ في التحليل في أفضل الحالات. ببساطة الأمر ليس بهذه السهولة، إيران 2015 ليست إيران 2020، وأميركا تغيرت وتغيرت معها أهدافها، كما أن حلفاء الولايات المتحدة أصبحوا اليوم أكثر تمسكا بمنع العودة للاتفاق القديم. بل إذا أردنا التعمق في التحليل سنجد أن أي اتفاق جديد سيكون بين بنوده الملف النووي، لكنه لن يكون اتفاقا نوويا خالصا، إذ أن النووي اليوم بات في الأولية ثالثا أو رابعا، بينما تتصدر اللائحة بنودا أخرى، كدور إيران الإقليمي، والمشروع الصاروخي، ومؤخرا المشروع الفضائي، إلى جانب طبعا المشروع النووي.

تدرك إيران ذلك جيدا، وتدرك أميركا أيضا أن أوراق التفاوض الإيرانية ليست سهلة، ورغم أن البلدين وصلا معا في أكثر من مناسبة خلال عام من التصعيد إلى حافة الهاوية وإلى بابها، إلا أن الواضح أن أحدا منهما لم يكن يرغب باستكشاف ما بعد الباب، بل في التجهيز لصناعة السلم والخروج وإعادة تصميم طاولة مفاوضات تناسب الظروف الحالية، ولا يهم أكان ذلك ببرغماتية عملية أو هجومية أم ربما بوصفة جديدة مختلفة عن كل ما جرى اختباره خلال العقود الماضية. المهم في هذا الإطار أن يكون هناك في الأصل قرار من أعلى سلم القيادة في طهران يعطي الضوء الأخضر بما سيترتب عليه ذلك، لا فقط في إيران، إنما أيضا في الدول حيث يتمركز حلفاؤها، الذين ربما سيكون عليهم الاستعداد لتحول في علاقاتهم بدولهم ومستوى اندماجهم فيها.

بالعودة إلى لاريجاني وشمخاني، الرجلان من الوجوه الأصلية في النظام، تلك التي يمكن وصفها بثقات المرشد، فإذا سلك لاريجاني طريق مجلس الأمن القومي، وهو أمر غير مؤكد حتى الآن، يبقى السؤال، ماذا عن شمخاني؟ بطبيعة الحال، من المستبعد أن يتنحى عراب صفقة اختيار مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء في العراق جانبا، فقد يكون الدور الذي بانتظاره أكثر تعقيدا وحساسية من الذي يتولاه حاليا، لا سيما وأنه يحمل من الخبرة العسكرية والسياسية والدبلوماسية الكثير، إلى جانب كونه عربيا من الأهواز. ومجددا كل هذا يبقى في إطار التكهنات حتى صدور قرار رسمي.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: