الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة10 أبريل 2020 15:27
للمشاركة:

إيران.. ويوميات بعيد عن الوطن

أين ما مشيت في العاصمة الإيرانية طهران أو غيرها من مدن ومحافظات البلاد، ثمة مشهد يشد انتباهك، لا بل قد يفاجئك إلى درجة الصدمة، ألا وهو الطبيعة الهادئة للمواطن الإيراني التي ربما تزينه أو تشينه.. فالحكم يبقى لك.. الأمر الغريب أن هذه الطبيعة لا نجدها في بلدان أخرى.

رحلة سير على الاقدام في شارع ولي عصر، أحد أكثر الشوارع صيتا في طهران والذي يبلغ طوله حوالى خمسة وثلاثين كيلومترا.. تلفه الأشجار عن الميلين، وعلى جوانب أرصفته الواسعة قنوات مياه تتدفق من ذوبان الثلوج أعلى جبال البُرز كما يطلق عليها، والتي تحيط بالعاصمة. كما يضم هذا الشارع عددا من المحال والأسواق التجارية، ومنها ما هو مخصص لبيع الأيس كريم، أو (بستني) في اللغة الفارسية، وهي محال لا يقتصر عملها على فصل الصيف (طبستان) فقط، بل تبقى أبوابها مشرعة على مدار الفصول الأربعة التي تحط رحالها في إيران فتميز طبيعتها وتنعكس بالتالي إيجابا على كل صور الحياة.

ربما لأنني أقيم في طهران منذ عامين ونصف العام، لم أعر انتباهي مطلقا إلى هذه الأشياء، فقد تعودت على رؤيتها بشكل روتيني وأصبحت أمرا مألوفا لا يتجزأ من حياتي اليومية. لكن زيارة صديقين لي إلى طهران، لفتت انتباهي وأثارت فضولي، ما دفعني إلى مزيد من التأمل والتبصر في طريقة عيش الإيرانيين، والطهرانيين منهم على وجه الخصوص. الأول أتى من لندن.. مدينة الضباب، والثاني قدم من الكويت.. وعلى الرغم من أن عمر زيارتهما كان قصيرا بمقياس الزمن.. لم يتعد أصابع اليد الواحدة، فاجآني بدقة ملاحظاتهما.. وأولى تلك الملاحظات الهدوء الذي يسكن المدينة ويترك بصماته على نفوس قاطنيها. جذبهما كما أعاد جذبي مشهد بائع (الأيس كريم)، وهو ينادي على المارة باعلى صوته (بستني.. بستني).. (بفرمائيد)، أي تفضلوا.. فتراه يستخدم أقصى إمكانيته الترغيبية، ويلعب بمهارة على وتر حسك الذوقي، وشهيتك.. فيحركها بطريقته الخاصة عبر تقديم صنوف مختلفة من (البستني) تتنوع ألوانها بحسب تنوع طعماتها. بيد أن مربط الفرس ليس هنا.. فهو إن بحثت عنه تجده في الطابور البشري الطويل الذي قد يصل مسافة تزيد في أقل الأحيان عن عشرة أمتار، ترى الواقفين فيه حاملين نقودهم بيد وقسيمة الشراء بيد أخرى، لا يحيد الواحد منهم عن الخط ولا يتعدى المشتري القادم حديثا على هذه القاعدة المرسومة، بما يضمن حق الجميع بالحصول على الأيس كريم بسكينة وسلام.. فلا تدافع يحصل ولا “من هم يحزنون”، بل يشكل الطابور فسحة للتعارف ولفتح حوارات غالبا ما تكون قصيرة.. وبعد أن ياخذ كل واحد حاجته، يمضي بطريقه.. فإمكانية اللقاء لاستكمال الحوار مجددا قد تنعدم في المدينة المترامية الأطراف ذات الأربع عشرة مليون نسمة.. ولو أن القول الشائع هو أن الدنيا صغيرة.. وعلى ذلك قس أمثلة كثيرة.. في المخابز والمطاعم إلى السوبر ماركت والدوائر الرسمية، والبنوك حيث لي قصص غريبة من “التحايل الخفيف الظل” على النظام، على الأقل بحسب اعتقادي… فأي زبون يدخل البنك لإنجاز أي معاملة عليه أخذ بطاقة تحتوي على رقم، ثم يجلس بين مئة شخص على الأقل لحين يجيء دوره الذي يسمعه عبر جهاز صوتي ينادي كل ربع ساعة على رقم معين. ولأنني لم اعتد بعد ثقافة الانتظار لأسباب سيكولوجية.. أو بيئية بحتة.. وبخطوات ملؤها الثقة بنجاح خطتي، اتقدم باتجاه الموظف وأبدأ بالتحدث إليه باللغة الإنجليزية ناكرًا معرفتي “السطحية” باللغة الفارسية، ولأن الإيرانيين يجلون الأجنبي (اتباع خارجي)، كما يسمونهم، تتيسر معاملتي دون أن أرى في وجه أي من الجالسين المنتظرين أي تذمر.. ولعل ذلك مرده إلى حب الإيرانيين للغرباء واحترامهم لهم.

قد يخال البعض للوهلة الأولى أن الانتظار الطويل يعطل دورة الحياة، وأن المواطن الإيراني ليس لديه عمل يقوم به سوى الوقوف في الطوابير. لكن المراقب عن كثب، يعرف أن المجتمع الايراني عملي بامتياز، وخير شاهد على ذلك الانجازات الكثيرة التي حققها في مختلف المجالات من صناعة السيارات والسينما، إلى تكنولوجيا الفضاء وما بينها كثير.. مع الاخذ بعين الاعتبار أن الحياة اليومية لا تخلو من المصاعب، فتعكس صورة من القلق والتعب لدى الشعب.. الذي بتصميمه وإراداته يلجأ أحيانا إلى السخرية السوداء من واقعه.. فيجسدها سائق التاكسي مثلا بسؤالك عن بلده وما يعجبك فيه تارة.. وطورا يجسده انتقادا لاذعا حينا وظالما أحيانا اخرى.. للطبقة السياسية الحاكمة على الرغم من أن ما توفره هذه الطبقة لمواطنيها من خدمات وتقديمات تيسر له حياة مفقودة في دول كثيرة لا تعيش حصارا منذ ما يزيد على الثلاثين عاما.

وينتقل بك ساق التاكسي من حياته اليومية ومشاكله ونبض الشارع بما يحمله من أشياء تغيب عنها السياسة وشبح التهديدات الأميركية والغربية إلى عالم أخر خاص إلى أبعد الحدود، فيبدأ بالاعتداد بحضارته القديمة وعمرها اليوم سبعة ألاف سنة وأزيد، وصولا إلى الاعتداد بلهجته الطهرانية التي تمثل بالنسبة إليه اللهجة الصحيحة مقارنة مع لهجات أهل المدن الأخرى. ف(الألف) التي تلفظ (واو) كما الطرابلسيون في لبنان تميزه عن باقي أبناء جلدته ولتوضيح ذلك يلفظ الطهراني اسم الشارع (خيابان) (خيابون) والخبز (نان) تصبح عنده (نون). ثم يكمل حديثه تساعده فيه طول المسافة إلى المكان الذي تقصده إلى النكات على أهل أصفهان الموصوفين بالبخل إيرانيا. فنكتة تلو أخرى حتى يشبع فضولك حبا لزيارة أصفهان والتأكد بنفسك من صدق الرواية من عدمها..
وإذا كانت هذه نبذة قصيرة أو بورتريه عن ناس طهران الذين يشكل الشباب دون الثلاثين سبعين بالمئة منهم، بكل ما تحمله من قلق أو إيمان بالمستقبل وانغماس في العيش على حافة الممنوع، تمر بي الذكريات.. ويعتريني الخوف من عدم قدرتي على أن ابرأ من حنين ولدته الغربة في داخلي.. إلى وطن أقل ما يمكن القول عنه إنه يتسع لجميع ابنائه.. لو توافرت لهم فيه ظروف عيش كريمة وأمنة..

كتب هذا النص عام 2010

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: