الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة8 فبراير 2020 17:10
للمشاركة:

أيام مع الإمام الخميني وبدايات الثورة

تنشر جاده إيران فصلا من كتاب الصحفي اللبناني أسعد حيدر الذي رافق رحلة مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني من باريس إلى طهران. الكتاب المعنون "أيام مع الإمام الخميني" عن دار الفارابي في بيروت (295 صفحة) وهو اصبح متوفرا في الأسواق منذ 7 شباط/فبراير 2020.

أيام مع الإمام الخميني وبدايات الثورة 1

زيارة طهران وسفارة فلسطين

من باريس إلى طهران عبر دمشق. وصلت فجراً إلى “مطار مهراباد” (أرض المحبّة) وقد أصبح بعد سنوات مطاراً داخلياً بعد فتح مطار الخميني الذي يبعد 70 كلم من طهران لاستيعاب أعداد المسافرين. إجراءات التفتيش كانت مضنية، بسبب التشدّد الثوري أو الخوف من المساءلة، من مراقبين غير رسميين. من الواضح أنهم من الملتزمين بالثورة. الفوضى كانت واضحة والاستقرار يتسلّل مع استقرار الثورة.

من مطار”مهراباد” إلى طهران عبر ميدان أزادي (الحرية) ونُصْبه الشهير. لم تكن الزحمة قد بدأت. وصلتُ إلى فندق أنتركونتننتال لأنه كما قيل لي يقيم فيه معظم الصحافيين الأجانب، وكان قد تمّ تغيير اسمه كما حصل في كل شيء من الفنادق، إلى البولفارات العريضة التي يُطلق عليها بالفارسية “خيابان” إلى الأزقة (كوجه) وأصبح “لالي” أي “زهرة الأقحوان الحمراء”. بالفعل كان يوجد عشرات الصحافيين الأجانب. معظمهم بدَت الحيرة عليهم، فالعمل كان صعباً جداً للجميع. لا أحد يتقن الفارسية، والعثور على مترجمين ليس بالأمر السهل وإن كان العديد من الطلاب قد بدأوا يتوافدون لعرض خدماتهم وكسب بعض الدولارات، خصوصاً وأنّ سعر الريال كان قد أخذ ينحدر، والسوق السوداء انتشرت حتى داخل الفندق، وصولاً إلى ميدان “فردوسي”.

لم تطل حيرتي حول ما العمل. قرّرت أن أبدأ من سفارة فلسطين التي كان أبو عمّار قد افتتحها. سألت: “أين تقع سفارة فلسطين”؟. قال لي عامل الاستعلامات، أنّها قريبة وبعيدة عنّا”.

 لم أستوعب في البداية ماذا يقصد. في الواقع كان الانقسام كبير من الموقف من الفلسطينيين خصوصاً وأنّ الكثيرين كانوا يعتقدون أنّ عناصر عديدة من فتح قد جابَت الشوارع ضد الجيش ما أثارت لدى الشاهنشانيين الكراهية ولدى الوطنيين الحساسية التي تطورت مع تقلبات الثورة ومفاعيلها. توجّهت إلى “السفارة” التي تقع في شارع فلسطين بعد عبور ميدان فلسطين. كانت الحشود والهتافات بدعم الثورة الفلسطينية ما زالت تهدر، والحراسات مشدّدة سواء من الإيرانيين أو الفلسطينيين.

دخلت السفارة التي كانت مبنى السفارة الإسرائيلية. من الخارج إلى الداخل بدَت حصناً عسكرياً. مكتب السفير الإسرائيلي سابقاً كان أبرز معالم التحصين وقد بدا ذلك عجيباً، لأن نظام الشاه كان مؤيداً وداعماً لإسرائيل.

أبو عمّار

وأنا أتجوّل في سفارة فلسطين وفيما بعد تساءلت كثيراً لماذا فشلت العلاقات الفلسطينية – الإيرانية، رغم أن مقدماتها كانت تؤشر إلى علاقة تحالف استراتيجية تغيّر الكثير من معادلة القضية الفلسطينية.

ما يؤكد على عمق هذا الفشل المؤلم، أن الرئيس ياسر عرفات كان أول زعيم عربي وأجنبي يزور طهران (17/2/1979) ويلتقي الإمام الخميني. فقد جاء إلى طهران أثناء إقفال الأجواء الإيرانية في الأيام الأولى من عودة الإمام الخميني. وقد نزلت الطائرة الرئاسية رغم التحذيرات في البداية. وكان يرافق أبو عمّار وفد فلسطيني كبير ضمّ أبو جهاد (خليل الوزير) وسعد مايل وصخر والسيد هاني فحص وغيرهم. وكان أول مَن التقى الإمام الخميني ونجح آنذاك حتى في إضحاكه وهو ما لم يحصل قبل ولا بعد ذلك اللقاء مع أحد.

يمكن تعداد الكثير من الأسباب لكن باختصار شديد وقعت أخطاء كثيرة من الجانبين. وضاع بذلك شعار “اليوم إيران وغداً فلسطين” في رمالها المتحركة. لم تتمكن “المجموعة الفلسطينية” في الثورة والتي ضمّت الشيخ محمد منتظري ومحمد صالح الحسيني في تجاوز أضرارها، علماً أن العلاقة بين حركة “فتح” والإمام الخميني قديمة وعميقة جداً يعود الفضل في تأسيسها إلى السيد هاني فحص الذي حمل أوّل رسالة من أبو عمّار إلى الإمام الخميني في النجف وكان حاضراً كل تفاصيل العلاقات، التي كان من بينها تدريب الكثير من الشباب الإيراني في صفوف “فتح” ومنهم كلاًّ من جلال الدين فارسي ورفيق دوست ومحمد صالح الحسيني وغيرهم. وإن أبو عمار شارك شخصياً في بيروت حفل تأبين د. علي شريعتي عام 1977.

في مسلسل الأخطاء التي ارتُكبت، أن الإمام الخميني ومَن معه أرادوا وضع حركة “فتح” في إطار الالتزام العقائدي للثورة الإسلامية الإيرانية في وقت كان يكافح فيه أبو عمّار من أجل تشريع وتثبيت شعار “القرار الوطني الفلسطيني المستقل”. حتى محمد صالح الحسيني قال في مقابلة له معي:

أما من الجانب الفلسطيني فكانت البداية في تدخّل أبو عمّار في قضية الرهائن في السفارة الأميركية، وإذا كان الإمام الخميني قد قدّم له هديّة في الإفراج عن الثمانية من الأميركيين الأفارقة وخمس نساء، فاستحق أبو عمّار عليها رسالة شكر من “سايروس فانس” وزير الخارجية الأميركية إلا أنه جرى وضع نقطة ختام على رغبة أبو عمار في إطلاق سراح باقي “الرهائن”. ثم جاء افتتاح حركة “فتح” مكتب لها في الأهواز ما أثار ردود فعل قاسية ضد ذلك في طهران لما في هذا الموقع من حساسية ضخمة عند الإيرانيين بسبب الكلام عن “عربستان” في حين يطلقون عليها خوزستان.. أيضاً ارتكب هاني الحسن رغم كل قدراته السياسية خطأ، إذ قال إن “فتح” درّبت عشرة آلاف إيراني، في الوقت الذي كانت الشائعات المفتعلة والمغرضة تملأ طهران بأن الفلسطينيين هم الذين قادوا عمليات القتال والقتل.

عمل أبو عمّار لتوقّف الحرب العرب العراقية – الإيرانية من موقع أنه “ساعي خير” وليس وسيطاً ولكنه لم ينجح.

وفي محاولة من “فتح” لحل الخلاف حول الجزر الثلاث بين إيران والإمارات اقترح أبو عمّار إرسال مقاتلين فلسطينيين إلى هذه الجزر مما يمنحه قوة مزدوجة أمام الإمارات والأميركيين لكن طهران اعتبرت مثل هذا الاقتراح مسّاً بالسيادة الإيرانية لأنها تعتبر “الجزر إيرانية”. أما من الجانب الإيراني فقد تناقص عدد “التيار العربي” لما كان يطلق عليه مع مقتل كلاً من محمد صالح الحسيني في بيروت ومحمد منتظري في انفجار مقر الحزب الجمهوري، وتراجع نفوذ آية الله حسين منتظري.

بهذا انهار “البناء الذي كان يتم تشييده للعلاقات الفلسطينية – الإيرانية ولم يبقَ منه سوى السفير أبو الصلح الذي خلف هاني الحسن والذي جدّ وصابر وعرف كيف يسلك حتى الآن وسط كل تعقيدات الوضع الإيراني وتطوراتها من مطلع الثورة حتى اليوم ببراعة يحسده عليها أقوى الدبلوماسيين، في نظام معقّد في تركيبته وموازين قواه في مرحلتَيه مع الإمام الخميني والمرشد آية الله علي خامنئي، وأيضاً في مجتمع أكثر تعقيداً في علاقاته العميقة في تكوينها وبناؤها التاريخي.

لا شك أن الخوف كان نابعاً من وجود مجموعات إيرانية ناشطة مع “فتح” في لبنان، قد تُقدم على عملية مفاجئة. لم يكن هاني الحسن قد استقرّ في السفارة بعد تسميته سفيراً لفلسطين في إيران. بل كان نائبه صلاح الزواوي (أبو الصلح)، والذي أصبح فيما بعد السفير الذي طالت إقامته حتى الآن.

كلمة واحدة سمعتها من الجميع، بما أنّك التقيت الإمام الخميني وآية الله حسين منتظري، فماذا تفعل في طهران. توجّه إلى مدينة “قم”، هناك الحدث وفي “قم” تتم صياغة إيران الجديدة نظاماً ومسؤولين. تعرّف اليوم على طهران وغداً “قم”.

من سفارة فلسطين، أخذت تاكسي لأتعرّف على طهران. من ميدان فلسطين توجّهنا إلى خيابان، أي بولفار، مصدق والذي سمّي فيما بعد (ولي عصر) بعد أن كان وليّ العهد. شعرت أن هذا البولفار لا ينتهي لذلك كنت أسأل السائق تكراراً هل ما زلنا في الشارع نفسه؟ وبابتسامة عريضة كان يجيبني نعم إنه أطول خيابان في إيران والشرق الأوسط، طوله 39 كلم، وهو يمتد من “الترمينال” (موقف كل الباصات والسيارات المتوجّهة إلى المدن) حتى جبل الرز المكلّل بالثلج.

قبل أن نصل إلى فندق هيلتون الذي أصبح اسمه “الاستقلال”، شاهدت حديقة قال لي السائق أنها “بارك ملت” أي بارك الشعب. نزلت وتجوّلت فيها وبدت لي عادية بالنسبة لحدائق باريس. لكن بالنسبة لبيروت كانت مفاجأة، لتتراكم بعدها المفاجآت في كل مرَّة أستكشف فيها زاوية في طهران.

أجمل ما في خيابان ولي عصر، الأشجار المعمّرة التي ذكّرتني بشارع رأس العين في بعلبك (الذي يشكّل أقل من شارع فرعي)، وفي حين أن كل مَنْ جاء إلى طهران من الحكام حافظ على شجرها حتى أصبحت معمّرة، فإنه في بعلبك تآمر بعض الجهلة من المدينة مع ضابط الأمن السوري عليها وقطعوها. الوجه الآخر لجمال الأشجار التي تظلّل أكثر من نصف البولفار، السواقي (جوب بالفارسية) الممتد على جانبيه وتقف الأشجار شامخة فيها والتي تسمع دائماً خرير المياه فيها.

المياه النازلة من الجبل موسيقى طبيعية، وأكثر ما كانت تتميّز به إيران، الأنهر. ومن أبرزها خريراً وأجملها في أصفهان نهر “زبانده” وقناطره الجميلة الثلاثة والثلاثين (سي وسه بل) الذي بُنيت في العصر الصفوي. حالياً جفّ النهر وأصبح قعره صحراء مؤكداً ما أصبح يوصف “بالإفلاس المائي”. وعلى ضفاف هذه السواقي (جوب) يجلس باعة الجوز المقشّر الموضوع في أوعية زجاجية كبيرة مليئة بالمياه، وإلى جانبها محلات بيع العصير خصوصاً الرمّان والشمّام، والكثير من المطاعم والمتاجر الغنية. لم أتوجّه من “تجريش” حيث نهاية ولي عصر، باتجاه “الدربند” كما نُصحت لأنني أدركت من الوصف أنّه يستحق زيارة خاصة.

الجديد في خيابان، وكما عُلم كان وجود حلبات، من الشباب والصبايا ونقاشات لا تنتهي حول الثورة وما العمل بشأنها. ومن وقت إلى آخر تعلو هتافات أصبح سماعها طبيعياً مثل “درود بر خميني” أي يعيش الخميني. رغم الهدوء الشامل الظاهر، كانت طهران تغلي وكان السؤال الكبير: ما العمل حتى لا يغتال أحد الثورة ويقفز على السلطة؟

زيارة قم

توجّهت فجر اليوم التالي، إلى “الترمينال” لأنتقل إلى مدينة “قم” (المقدسة كما أطلق عليها) في أحد الباصات الكبيرة. بدت طهران من خلال خيابان “ولي عصر”، ثلاث مدن في مدينة واحدة. الشمال، للطبقة البرجوازية الغنية، حيث معظم الأبنية فيها فيلات تضم مسابح خاصة، وشوارعها الداخلية عريضة ومنظّمة. الوسط، حيث تتركز الدوائر الحكومية، والجنوب الفقير سواء في أبنيته أو سكانه حتى بدا لي ضاحية لا تختلف عن باقي ضواحي بيروت وباقي المدن العربية.

أخذت الباص، بدَت المسافة إلى مدينة قم طويلة جداً، فالطريق صحراوية إلى جانب بحيرات الملح التي متى عصف فيها الهواء تجعل السير والعمل فيها مستحيلاً.

وصلت منذ اللحظة الأولى، شعرت أنني في مدينة صعبة وخارجة من الزمن. اللون الأسود طاغي فيها رجالاً ونساءً. أخذت سيارة وطلبت من السائق أن يمرّ بي أمام مقرّ الإمام الخميني. الحراسات الأمنية المتعددة أقنعتني باستحالة الدخول وحدي خصوصاً وأن لا أحد يتكلم غير الفارسية، إلى جانب التشدّد الواضح من الوجوه، إلى الأوامر بالابتعاد للحشود المهمة التي كانت ما زالت تهتف “درودبر خميني”. طلبت من السائق أن يأخذني إلى منزل آية الله منتظري. الإجراءات الأمنية كانت أيضاً مشدّدة. فقد تأكد الجميع أنّ آية الله منتظري هو الرجل الثاني بعد الإمام الخميني.

نزلت من السيارة عند أوّل حاجز، وبينما كنت أحاول مع الحارس رؤية الشيخ محمد منتظري، إذ به وقد ترك السيارة التي تقلّه وحرسه وتقدّم منّي ليحتضنني بعفويّة مدهشة وصدق تام. لم يتغيّر الشيخ منتظري. لم تدهشه بوابات السلطة ولم تغيّره على الإطلاق.

ببساطة قال لي: “أدخل الدار داركم”. دخلت، كان الوقت ظهراً. لم يطل جلوسي حتى دخل آية الله حسين منتظري. وقف الجميع ووقفت معهم، فارتفع صوت التكبير من الحاضرين. جلس منتظري وأخذ يتقدّم منه الحاضرون، فيقبّلون يده، ويتكلّمون هامسين عن مسألتهم فيقول رأيه أو حكمه، ومضى الوقت حتى لم يبقَ سوى الشيخ محمد منتظري والشيخ هادي مهدي وبعض المساعدين.

حضر الغذاء، وكان ما أصبح عادة تعوّدت عليها منذ نوفل لوشاتو: الخبز والبيض المسلوق والبصل والرز والعيران. انتهى آية الله منتظري من الطعام ووقف فوقفنا. سلّم عليَّ بحرارة قائلاً: نلتقي مساءً.

الشيخ محمد منتظري، وكعادته قال لي قم (انهض) ولم يقل إلى أين. توجّهنا معاً إلى منزل الإمام الخميني. اخترقنا الحرس والجموع. ودخلنا. في الباحة التقينا السيّد حسين الخميني الذي رحّب بنا بالعربية وبودٍّ لطيف. تحادث مع منتظري بالفارسية. دخلنا إلى قاعة فسيحة حيث كان الإمام الخميني. سلّمنا عليه من بعيد. لمحته وهو ينظر اليّ بود. نظر إلى الجميع فقال منتظري ما معناه: “أسعد حيدر ابن فاضل وصادق لثورة الإمام الخميني”، فصرت موضع تحديق وترحيب من الجميع.

بقينا بعض الوقت ثم قال منتظري: “يا الله” أي حان وقت الذهاب. في الطريق إلى جامع الفيضية، قال لي الشيخ منتظري: أعرف أنك صحافي وستعمل على استقراء الأوضاع. أعتقد أنه عليك الانتباه فليس كل ما تراه وتسمعه هنا هو الواقع. ففي كلِّ حركة وكلِّ كلمة هنا طبقات ورسائل. عليك أن تبحث وتدقّق في الشخص، وفي موقعه وانتمائه وهدفه لتفهم ماذا يقول ولماذا؟. بدا لي منتظري في منتهى العقل رغم أن أقاويل كثيرة وشائعات أكثر تحدّثت عن عدم توازنه. في الواقع أن بساطته ومواقفه الحادّة كانت تربك أصدقاءه وحتى والده أكثر من خصومه. ولا شك أنّ ما قاله لي شكّل مساراً لي طوال رحلاتي واتصالاتي في إيران وحتى فيما بعد في كل متابعاتي. ذلك أنّ مبدأ “التقيّة” يشكّل منهجاً للعمل وللكلام. لذلك فإنه ليس كل ما يقال يكون هو المقصود، الكثير منه يكون رسائل وتوجيهات لأبعد ما تتصور، ولأشخاص لا يظهرون في الصورة. وفيما بعد كنت أقول أن الكلام حمّال معاني في طهران مثل الكاتو الفرنسي Mille feuille.

عدنا إلى المنزل. الحشود نفسها في الخارج والكثيرون في الداخل. جلسنا في غرفة مفصولة عن (ديوان) آية الله منتظري. تحدّثنا قليلاً وحضر العشاء المكوّن من الخبز والجبنة والخيار والشاي. مُدّت طرّاحات عديدة حيث نجلس وقال لي منتظري: الشيخ (أي والده) متعب الليلة. تمدّد واسترح وغداً نكمل جولتنا.

عند الفجر، استيقظت وانتبهت أنه يوجد العديد من الذين ناموا في القاعة، لفّ الحاضرون الطرّاحات ووضعوها في الزاوية وتحضّروا للصلاة.

جاء آية الله منتظري فنادى أحدهم ما معناه: قد قامت الصلاة. فوقف الجميع. اخترت الابتعاد في الزاوية. أشار لي- الشيخ محمد – بأن أقف مع المصلّين وعددهم حوالى العشرة، بقيت جالساً في الزاوية. لم أرد أن أدّعي أنني أصلّي خلف عالِم ورِع جدًّا مثل آية الله منتظري. عندما انتهت الصلاة ويبدو أنّ آية الله منتظري قد انتبه إلى ابنه محمد وهو يحثّني للصلاة. فقال لإبنه وقد اقتربنا منه “اتركه يا محمد حتى يقتنع بنفسه. ما الفائدة إذا صلّى خلفي وعقله وقلبه في مكان آخر، عندما يأتي الوقت سيقوم بما يجب أن يقوم به”. وجدت في آية الله منتظري صفاءً نادراً، وازداد إعجابي به مع الوقت عندما رأيت وعايشت مواقفه الصادقة التي لم يتراجع يوماً عن ترجمتها أفعالاً وملامسة حتى ولو كلّفتة موقعه ومستقبله، وهو ما حصل فعلاً عندما أُبعد عن موقع قائم مقام الإمام ومن ثمَّ وُضع قيد الإقامة الجبرية لسنوات طويلة.

زرته لاحقاً بمنزله في قُم، وذلك قبل وفاته بقليل، غداة الانتخابات المزوّرة لصالح أحمدي نجاد ووقوع الانتفاضة الخضراء، ولم ألتقِ به لأنّه كان قد خرج إلى قريته، فتركت له صوراً له في “نوفل لوشاتو” خاصة تلك الصور عند تقاطع وصوله ودخوله إلى منزل الخميني مع خروجنا منه: محمد حسنين هيكل وفؤاد مطر وحسين الخميني.

صباحاً توجّهت مع الشيخ منتظري إلى منزل الإمام الخميني حيث التقيت السيد حسين الخميني الذي كانت بذور التمرّد بدأت تتجمّع في رأسه وقلبه. أجريت معه مقابلة (منشورة). وفي طريق العودة قلت لمنتظري: أعتقد أن منزل آية لله شريعتمداري قريب من هنا فلنمرّ عليه فألتقي به وآخذ منه مقابلة. قال لي منتظري بحسم: لا داعي سيستاء منك منزل الإمام. صمت، وأدركت أن الصراعات بدأت تظهر على السطح. بالفعل عندما وصلنا إلى المنزل دار نقاش واسع مع الحضور، تعمّد الشيخ محمد منتظري أن يترجم بعضه حتى أفهم ماذا يدور، وفي الخلاصة فهمت من التعليقات أن الإجماع الذي حصل بين مختلف القوى والتيارات قد انتهى، وأن الصراعات قد بدأت ولذلك فإنه من الطبيعي أنّ المرحلة القادمة ستكون “المرحلة” التي “تأكل فيها الثورة أبناءها”.

أمضيت ثلاثة أو أربعة أيام قي قُم. أجريت خلالها مقابلة مع آية الله منتظري (نشر نصها في المستقبل) تحدّث فيها بالفارسية وقام السيد هادي مهدي الذي كان معه في باريس بالترجمة، وعلمت فيما بعد أنه تسرّع في نزع العمامة عن رأسه فغضب الإمام الخميني عليه، ولم يتبوّأ منصباً عالياً كان متوقعاً له حتى سمّاه هاشمي رفسنجاني سفيراً في السعودية. سألت عن المدنيين الذين كانوا في “نوفل لوشاتو” أي صادق قطب زاده وإبراهيم يزدي وأبو الحسن بني صدر. فسمعت أنهم في طهران يستعدّون ويعملون للمرحلة القادمة.

 سمعت الكثير في منزل آية الله منتظري عن بني صدر ولم أسمع شيئاً عن الآخرين حتى جاءت الإشارة الأولى للتطورات القادمة، أنّ بني صدر سيترشّح لرئاسة الجمهورية ليكون بذلك أوّل رئيس جمهورية في حين كان الإعلام الدولي لا حديث له سوى عن ابراهيم يزدي وصادق قطب زاده ومستقبلهما الزاهر في السلطة. وهو ما لم يحصل، فقد أُبعد يزدي بعد تولّيه وزارة الخارجية ومات بعد سنوات طويلة، وهو فيما يشبه الإقامة الجبرية. أمّا قطب زاده الذي أصبح وزيراًللخارجية فقد أُعدم في سجن أفيين في طهران بتاريخ 15 أيلول (سبتمبر) 1982، بتهمة محاولة اغتيال الإمام وهو كما سمعت مرّات بريء منها.

غادرت قُم إلى طهران بالباص. وعايشت مرّة أخرى جنون السرعة والسواقة التي لا مثيل لها سوى في بيروت. بدأت أعتاد على الزحام والسيارات المسرعة وتعلّمت الصعود في “السرفيس” على طريقة بيروت، وذلك بعد أن التقطت العديد من الكلمات والجُمل الفارسية.

على طائرة الثورة مع الخميني

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: