الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة8 ديسمبر 2019 20:28
للمشاركة:

أخذ العبر الصحيحة من الإحتجاجات الإيرانية

إن المعلومات والآراء المذكورة في هذه المقالة المترجمة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جاده إيران وإنما تعبّر عن رأي كاتبها أو المؤسسة حيث جرى نشرها أولًا

في أواخر هذا العام، إنضمت إيران إلى دول الشرق الأوسط التي شهدت تظاهرات شعبية واسعة النطاق، وجاءت التظاهرات الحاشدة على خلفية القرار المفاجئ للحكومة بتاريخ 15 نوفمبر بخفض الدعم عن المشتقات البترولية. وقمعت الحكومة التظاهرات بشكل مفرط، مما يجعل هذا الرد العنيف مِن جانب السلطة واحدًا من أكثر أعمال القمع قسوة في تاريخ الجمهورية الإسلامية.
ومع تراجع أعداد المتظاهرين، عمدت القيادة السياسية إلى الترويج لقدرتها في السيطرة على الشارع الإيراني وإعادة الهدوء إليه، لكن مع غياب الإصلاحات السياسية والاقتصادية الجريئة، قد تكون فترة الهدوء هذه قصيرة الأمد.
بالتزامن، وعلى الصعيد الخارجي لم تعد ترى إيران مُتسعاً يسمح لها بالدبلوماسية مع الولايات المتحدة أو أي تقارب في العلاقات مع دول الخليج، وإن بقت فكرة حدوث حوار ضرورية ولكن أقل احتمالًا، خاصة، لا سيما إذا قررت طهران إتخاذ خطوات تصعيدية فيما يتعلق بالملف النووي أو السياسة الخارجية، أو في حال قرر خصومها، بناء على تقييم بأن الجمهورية الإسلامية قد تسقط، بأن الوقت ليس مناسبًا للتسوية.
الاتجاهان يشكلان خطأً فادحًا وبالتالي على الجمهورية الإسلامية البدء في إصلاحات على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، وعلى الولايات المتحدة وحلفائها وقف التصعيد وإطلاق المسار الدبلوماسي.
ليس بالإمكان معرفة ما حصل بشكل دقيق في النصف الثاني من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر. فوفقًا لتقرير منظمة العفو الدولية قتلت قوات الامن 200 متظاهراً خلال أيام، وأصابت وأعتقلت أعدادا أكبر من ذلك. لكن ما لا شك فيه أن القيادة الإيرانية كانت سريعة وعنيفة في سحق التظاهرات.

في العقد الماضي شهدت إيران ثلاث إضطرابات داخلية رئيسية:
أول إنتفاضة حدثت في العام 2009 وعُرفت بالثورة الخضراء (الحركة الخضراء)، واندلعت عقب الانتخابات التي أعيد فيها إنتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد والتي جرى التشكيك في نزاهتها. ونتج عن ذلك إحتاجات أستمرت على مدار عشرة أشهر قتل خلالها 72 متظاهرًا في إشتباكات مع قوات الامن.
ثم، انتفاضة بين ديسمبر 2017، ويناير 2018 ، حيث اجتاحت التظاهرات أكثر من 100 مدينة إيرانية لعدة أسابيع بسبب الأزمة الاقتصادية، لكن قوات الأمن تحلت وقتها بضبط نفس عالٍ مما حد من عدد القتلى، وخلفت الاشتباكات بين شرطة مكافحة الشغب والمتظاهرين قرابة 20 قتيلاً.
لكن وفقا لصحيفة نيويورك تايمز، كان الأمر مختلفًا في نوفمبر 2019، حيث قامت قوات الأمن بنشر أسلحة ثقيلة في مدينة مدينة ماهشهر الساحلية في مقاطعة خوزستان الجنوبية الغربية وأطلقت الرصاص الحي على المتظاهرين، وفِي حادثة واحدة أسفر اطلاق النار عن مقتل قرابة 100 متظاهرا من الاثنية العربية. كما قامت السلطات الإيرانية بقطع خدمات الإنترنت لمنع المراقبين في الخارج من معرفة ما يجري من أحداث فور وقوعها.
وكما هو متوقع، تعلل المسوؤلون الإيرانيون بالتدخلات الخارجية لتبرير العنف الذي وقع، كما أعلنت وزارة الداخلية أن قرابة مئتي ألف شخص قاموا بأعمال شغب نتج عنها تخريب أكثر من 700 بنك، وتدمير 140 مبنى حكومي، إلى جانب إشعال النيران في مئات السيارات والدرجات النارية.
وبتاريخ 27 نوفمبر خرج المرشد الأعلى علي خامنئي قائلًا: الأعداء أنفقوا قدراً هائلًا من المال لترتيب لهذه المؤامرة وكانوا ينتظرون فرصة تنفيذها. كما قال مسؤول إيراني كبير لمجموعة الأزمات إن الهجوم على الممتلكات العامة كان مُنسقًا، وأضاف أنه تم إستهداف البنية التحتية الحيوية مثل الموانئ وصوامع الحبوب والمصافي النفطية وهذا مغاير لنمط التظاهر المُكرر في البلاد.
كما تظن طهران أن التزامن بين التظاهرات بالداخل الإيراني وفي العراق ولبنان سببه حملة منظمة تهدف إلى تقليص النفوذ الإقليمي لإيران. ويستند مسؤولو إيران للتصريحات الصادرة من واشنطن كدليل على وجهة نظرهم. ومع ذلك، فإن الحقيقة الصادمة أن التظاهرات في كل بلد على حدا كانت في المقام الاول تعبيرًا عن الغضب ضد السياسات الداخلية الفاشلة.
ويشير معارضي الحكومة الإيرانية إلى أن الإحباط قد أوصل الناس لمرحلة غليان ضد النظام، في الوقت الذي ينظر فيه النظام للمعارضة بوصفها مرادفًا للخيانة ويتصدى لكل حراك شعبي بوحشية شديدة ومطردة. وفي رسالة إحتجاج مفتوحة من كبار فناني إيران سألوا فيها النظام “إلى أي مدى ستبقون تستخدمون القمع لمنع الناس مِن المطالبة بأبسط حقوقهم وإحتياجاتهم الأساسية؟”
بدوره، مير حسين موسوي، أحد زعماء الثورة الخضراء، القابع رهن الإقامة الجبرية منذ العام 2011، شبه حملة القمع التي قامت بها الحكومة محاولات الشاه لخنق الثورة التي كانت في طور النشوء قبل أكثر من أربعة عقود.
ختامًا، لا يمكن للمرء إستبعاد التدخل الأجنبي، لكن إنفجار 15 نوفمبر كان غضبا مكبوتاً نتيجة للمراوحة السياسية والأزمة الاقتصادية، وأثراً من أثار التضخم المرتفع والركود المزمن والفساد المستشري في إدارة البلاد.
وقد بررت حكومة الرئيس حسن روحاني الارتفاع المفاجئ في أسعار الوقود والذي ارتفعت أسعاره من 10000 إلى 15000 ريال لكل لتر (متجاوزًا ضعف الدعم الشهري) على أنه إعادة تخصيص مُلحة للموارد من أجل الفئات الأكثر إحتياجًا وخصوصًا غير المستفدين بدعم البنزين والذي يتم تهريبه على نطاق واسع، وهذا الخفض في الدعم البترولي سيوفر 2.5 مليار دولار من الموازنة العامة حيث ستقوم الحكومة بإعادة توزيعها على 18 مليون أسرة إيرانية. وبهذا أصبحت الكرة في ملعب آية الله خامنئي، بين أن يُسرع محاولًا كسر القيود حول الإقتصاد وتحمل مسؤولية الامر، أو إختيار الحل الامني ويعمل على قمع ما يعتبره أعمال شغب.
الآن، قد يستمد القادة الإيرانيون القوة من قدرتهم الواضحة على قمع الاحتجاجات، لكن ذلك سيكون فهما قاصرا. فالقمع له نتائج عكسية وهناك أمثلة عديدة على هذا مثل زيادة التشدد لدى المعارضة وما ينتج عنه ذلك من إمكانية الإطاحة بحكومات تظن نفسها منيعة.
كما لا يعني نجاح النظام في قمع التظاهرات نجاحه في معالجة الأسباب التي دفعت لإندلاعها، فإذا أقتنعت طهران برواية المؤامرة وفشلت في البدء بعملية إصلاح إقتصادي ومحاربة للفساد والعمل على خلق حالة من التعددية داخل المؤسسات السياسية، فستصبح مسألة الصدام بين الشعب والنظام مسألة وقت. بالإضافة إلى خطر نشوب حرب أهلية في المناطق التي يقطنها عرب وأكراد وأقليات آخرى نتيجة حالة التهميش والإقصاء الحادة التي يعانوها، لهذا على طهران أن تدرك أن برفع أو بفرض عقوبات الولايات المتحدة هي بحاجة لعملية إصلاح شاملة في هذا التوقيت.
والسؤال الرئيسي هنا يتمحور حول تأثير التظاهرات والمصاعب الإقتصادية التي تواجها على مستوى العداء بين إيران والولايات المتحدة وجيرانها في الخليج، ويمكن أن نتخيل أن طهران ستسعى إلى التخلي عن التصعيد داخليًا وخارجيًا، وأن تسعى بشكل عاجل للتوصل لإتفاق مع واشنطن يخفف من وطأة العقوبات الإقتصادية. وسبق أن طرحت مجموعة الأزمات مسودة إتفاق مُحتمل ينص على إمتثال إيران لبنود الاتفاقية النووية لعام 2015، مع الموافقة على الدخول في مفاوضات حول اتفاقية أوسع تغطي جدولًا زمنيًا أطول وتشمل تسوية لقضايا إقليمية في مقابل أن ترفع الولايات المتحدة العقوبات الإقتصادية عن إيران.
كما يمكن أن نتخيل أيضًا أن إدارة ترامب، التي تفهم أن مهما بلغ ضغطها وحصارها على إيران لن يتغير سلوك الاخيرة في الإقليم ولن يدفعها لقبول مزيد من القيود النووية، ستنتهز الفرصة للوصول لمثل هذا الاتفاق.
وكما تخيل هذا السيناريو، ينبغي علينا أن نتوقع أيضًا سيناريو أكثر خطورة. في الواقع ، يبدو أن طهران وواشنطن اتخذتا تفسيرات مُعارضة تمامًا للتظاهرات داخل إيران وللتظاهرات في دول الإقليم. وعلى الرغم من استمرار التظاهرات هنا وهناك، أعلنت الحكومة الإيرانية النجاح في إحباط “مؤامرة” أخرى مدبرة مَن خصومها – أي الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية – لزعزعة استقرارها.
ولهذا لجأت طهران سريعًا لاستخدام قبضة من حديد لأنها رأت التظاهرات “مؤامرة” واعتبرتها جزءً من “الحصار الكبير” المفروض عليها والذي يمثل شكلاً من أشكال الحرب الاقتصادية ضدها. وهذا الحصار والتصعيد ضد إيران يجعلانها متشككة في نوايا إدارة ترامب، بل ومترددة في التفاوض مع الولايات المتحدة قبل تخفيف العقوبات عنها.
كما أن الجمهورية الإسلامية لا تشعر بالضرورة بالعجز كما يعتقد أعداؤها. فقد صرح مسؤولون إيرانيون لـ “مجموعة الأزمات” أن السرعة التي تمكنوا بها من إخضاع الشارع الإيراني، وبغض النظر عن التكلفة، يجب أن تُظهر لواشنطن أن الأمور داخل إيران تحت السيطرة الكاملة.
و يزعم المسؤولون الإيرانيون أن حملتهم الخاطفة لإعادة الهدوء لطهران إلى جانب سلسلة هجمات تمت خلال الأشهر القليلة الماضية على ممرات الملاحة والبنية التحتية لمصافي النفط في المملكة العربية السعودية، والتي أُتهمت الولايات المتحدة وحلفاؤها إيران بتدبيرها، تُظهر قوة الأخيرة في الداخل والخارج، وتبرز نقاط ضعف خصومها.
لكن واشنطن توصلت لإستنتاج مختلف تمامًا وهو أن الحد الأقصى من العقوبات الإقتصادية بدأ بزعزعة إستقرار إيران وكذلك بإحداث هزات لحلفائها في المنطقة، وهذا ما يجعل الوقت مناسباً لواشنطن لفرض المزيد من العقوبات وليس للتفاوض.
وفي الوقت ذاته ألقت واشنطن باللوم على سياسات الجمهورية الإسلامية وليس على العقوبات الصارمة في الأزمة الاقتصادية الإيرانية، وأعربت عن دعمها للمتظاهرين محتفية بإندلاع تظاهرات في إيران.
لكن لا تبدو فكرة الضعف الإيراني ذات قيمة إلا عبر الإحتجاجات في العراق ولبنان حيث الأنظمة السياسية التي تدعمها إيران بشكل جزئي. على الرغم أن التظاهرات في العراق ولبنان يحركهما الفساد وسوء الإدارة إلا أنها تحمل مشاعر عدائية قوية تجاه النفوذ الإيراني في كلا البلدين.
ولم تغير التظاهرات في إيران مِن طبيعة العلاقات العدائية مع المملكة العربية السعودية والعلاقات الفاترة مع الإمارات العربية المتحدة.
فقبل التظاهرات، وبعد الحوادث التي وقعت في ممرات الملاحة في شهري آيار/مايو وتموز/يوليو، والهجوم غير المسبوق على شركة النفط السعودية العملاقة أرامكو في أيلول/سبتمبر، كانت قد بدأت أبوظبي، بدرجة أقل بكثير من الرياض، بمحاولة تقارب دبلوماسية مع طهران لتخفيف التوتر بالمنطقة.
وعلى الرغم من أن السعودية والإمارات يتشاركا قناعة واشنطن بأن الجمهورية الإسلامية قد لحق بها أضرار جسيمة نتيجة العقوبات ولا يجب أن يُتاح لها أي فرصة لنجاة. لكن خوف الدولتين الخليجيتين من مواجهة عسكرية واسعة النطاق هي ما تدفعهما على ما يبدو للسعي لإيجاد قنوات إتصال مع طهران.
وتزيد التظاهرات في العراق ولبنان وهما حدائق خلفية لإيران، وتتمتع الأخيرة فيهما بنفوذ سياسي كبير ومصالح متشعبة، تزيد من تعقيد المشهد الجيوسياسي وترفع من منسوب القلق لدى طهران. لكن توجه إيران في المقابل نحو توجيه حلفائها لتطبيق قواعد اللعبة القمعية الصارمة لطهران في في بيروت وبغداد قد يعجل بسقوط الأنظمة السياسية الحليفة هناك وقد يؤدي إلى انعكاس هذا الأمر إنهياراً إقتصادياً على الأقل لإيران.
وقد صار من اللازم على الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين النظر أبعد مِن ثنائية إنهيار أو إستسلام النظام الإيراني، فمن الواضح حتى الآن أن سياسية الحصار والعقوبات القصوى لا تؤدي إلا لمزيد من عدم الإستقرار في إيران ولكن لا يعني هذا تهديداً لوجودها بل معاناة أكبر للشعب الإيراني وتسريع للبرنامج النووي الإيراني وتهديد أكبر لدول الأقليم.
إن التفكير بشكل مستبقلي في ضوء المعطيات المقترحة أعلاه، والمطروحة مِن قِبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حيث تبطئ إيران برنامجها النووي ويقابل هذا رفع جزئي للعقوبات سيشكل مسارًا أفضل لمحاولة حل الأزمة الأقليمية. وسواء نجح هذا المقترح أم لم ينجح، فإن لدى دول الخليج وإيران كل الأسباب لمضاعفة جهودهما الحثيثة لبناء قنوات إتصال لتجنب الدخول في مواجهة عسكرية غير محسوبة العواقب.

المصدر/ مجموعة الأزمات الدولية

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: