الجادّة: طريقٌ في اتجاهين

“العشق وأشياء أخرى” طائرة ورقية عالقة في شجرة مصطفى مستور

للمشاركة:

أطلق الكاتب الايراني المعاصر مصطفى مستور (مواليد أهواز- 1965)  العنان لقلمه المميز ونثره المرسل في قصة طويلة جديدة اصطف القراء لاقتنائها نهاية شتاء 2018. تبدو القصة حتى منتصفها كطائرة ورقية جميلة تعلو في سماء صيفي يركض خلفها القارئ بمتعة لتعلق في منتصف الطريق بأغصان شجرة يصعب بعدها إكمال التحليق لتشابك أحداث تفاجئ القارئ وتفقد القصة حسن الختام.

يدس مصطفى مستور في كتابه الجديد “العشق وأشياء أخرى” الصادرة عن دار “جشمه” طهران ٢٠١٨، عصاه السحرية لرسم كلمات الحب من جديد فيخبز من تراكيب اللغة الفارسية البسيطة صور بديعة تذهل القارئ وتشده للغوص أكثر في رواية صنفت على أنها قصة طويلة، يرتب فیها الكاتب شخصياته على مقاعد ذاكرة العابر في طهران. يختار مكان قصته من أمام باب السكن الجامعي في منطقة أمير آباد حيث مرّ من هنا أغلب زوار العاصمة وقرنوا مقطع من شريط حياتهم بهذه الشوارع.  

يكتب مستور عن الحب من النظرة الأولى عن خيارات أبناء المحافظات الإيرانية النائية في مدينة الاحلام طهران، فيقلد بطولة قصته لابن مدينته “هاني” القادم من الأهواز إلى جامعة طهران، يرتب مستور الاحداث على تقويم الحرب الايرانية العراقية، فيجعل منها سلماً لاحداث قصته، حاملاً كما أغلب كتاب جيله ولا سيما أبناء الجنوب ندوب هذه الحرب.

راوغ صاحب رواية “قبل وجه إلهك“؛ المترجمة للعربية بنسختين، بين هموم الحاضر والماضي والمستقبل لشريحة الشباب الذي ولدوا في إيام الحرب وحملوا مع عائلاتهم أعباء العقوبات الاقتصادية على البلاد، ووقفوا تائهين أمام خيارات اختزلها الكاتب برمزية جيدة في ثلاثة خريجين جامعيين جمعهم قبو “موسى نقره” قرب السكن الجامعي، شخصية “هاني”البطل تمثل أغلبية الناس بحلمه البسيط بحياة متوسطة وعمل مناسب وزواج من فتاة الأحلام، فيما يمثل “كريم جوجو” النزيل الثاني في القبو موجة الأحلام العالية التي ترى في المال حلاً لكل شيء، والأخير “مراد سرمه” الغارق فی كتب الفلسفة والاندماج بالطبيعة يحكي قصة شريحة من الشباب الإيراني تقف خارج الأحداث المتسارعة في بلادهم مختارين طريق منزوياً يمكن للجميع سلوكه، تجمع الثلاثة لعنة مواليد الثمانينات أي مواليد الحرب التي تركت ذكرى في جسم “هاني” لا يمكن تجاهلها.

التوازنات التي رسمها مستور في بداية كتابه إلى جانب مزيج من الإشارات لهموم الحياة الاجتماعية في طهران أظهرته كرسام محترف للبدايات، لكن حجم القصة الصغير 122 صفحة، يثير التساؤلات رويداً رويداً كيف ستنتهي الأحداث بهذه السرعة، فعلى الرغم من الحبكة الجيدة لها إلا أن عقدة القصة تأتي متأخرة فیما ینتهی بناء القصة بشكل سيء فالبطل يقرر الانتقام من عريس حبيبته بالقتل ويُقتل إيضاً “كريم جوجو” بشكل غامض ويموت صاحب القبو وهو رجل مسن وفيما تنقذ القطط “مراد سرمه” من حادث سير.

على رغم السرد الناجح الذي تبدأ به القصة إلا أنه يضعف بشكل سيء مع اقتراب النهاية، نجد في بداية القصة جزئيات اقتطفت بذكاء من الوقائع اليومية، يرسم مستور الاختلافات بين الأجيال عبر مقارنة “هاني”البطل مع أبيه الخياط “عندما يعود أبي إلى المنزل ينزع معطفه وقبعته بهدوء ویضعهما على علاقة الملابس، فيما أنزع ملابسي بسرعة وارميها على السرير وفي يدي اتصال مهم دائماً، يجلس أبي تحت شجرة التوت ويستمع للراديو فيما أجلس أمام طاولتي أنظر مطولاً إلى كتبي ثم أتصل بأحد أصدقائي أو أشغل الحاسوب”.

اختار مستور لقصته عنواناً لطيفاً يمكن منه خلاله لمس مضمونها “العشق وأشياء أخرى”، يفتح صفحات كتابه للحب، ليروي إحدى حكايته إلى جانب أشياء أخرى التصقت بجيل “هاني”، منها عقدة العاصمة فيقول (اخترت البقاء في طهران لثلاثة أسباب أكثر من غيرها: المال الجيد، والطعام الممتاز، والفتيات الجميلات)، مختصراً أكثر ما يحتاجه الانسان أينما كان، وتفتقده الكثير من المدن في إيران،  الحرية التي يشعر بها القادم إلى طهران تصبح أغلى ما لديه فيلتصق بها مع ما تركته داخله مدينته الأم من تراكمات حلوة ومرة، فهاني الذي سيصبح طهراني بعد سنوات يستحضر دائماً في ذهنه ما كانت تقوله جدته، على عكس “مراد سرمه” الذي يستشهد فقط بأقوال الفلاسفة، أو “جوجو كريم” المهووس بالغرب وما وصل من ثقافته إلى هنا.

في الحب يبدع مستور وينتقي صوراً بسيطة ودافئة من حب هاني للشابة برستو (أحب زملاء برستو في العمل لأنهم يحترمونها أحب حذائها وحقيبتها والأشياء التي تضعها داخلها، وعلاقة مفاتيحها ونوع العلكة الذي تشتريه وساعة يدها وأصابعها وأسوارتها الفضية، حتى بقايا النقود المعدنية في حقيبتها لا تشبه بقية النقود)، لكن هذا النجاح في السرد لم يستمر مع اختيار الكاتب لعقدة القصة حيث يصطدم الشابان العاشقان بحقيقة عدم قدرتهم المالية على الزواج فتختار الفتاة الانسحاب لصالح شخص مقتدر بعد أن انتظرت هاني لوقت طويل لم يستطع فيه الوصول إلى نتيجة، لكن هاني الذي لم يعثر على حل لحياته اختار القتل طريقةً للانتقام، مع أن ترتيب الأحداث لا يوحي بمثل هذا الخيار الجنوني إلا أن الكاتب أجبر البطل عليه بطريقة ينهي فيها على عجل قصة لم تمض بشكل موفق.

صفحات ونجد أن القصة أوشكت على النهاية، والبطل يمضي في خطة ساذجة لقتل لم يتم، فيمتنع عن تنفيذها لأنه ذات البطل طيبة وشخصيته بسيطة لا تشبه ما اختاره الكاتب من تغيير مفاجئ غير منطقي في الشخصية، المفاجئة الأسوء كانت في الصفحات الستة الأخيرة التي انهت القصة على الطريقة الهندية برمزية مباشرة يمكن أن توصف بالفاشلة.

الخط البياني لعناصر القصة تأتي متباينة جداً في النجاح والفشل، يمكن تفسيره ضمن تصريح لمصطفى مستور قال فيه: (“العشق وأشياء أخرى” كالطفل غير المرغوب فيه، مضيت في كتابته بالتزامن مع أعمالي الأهم)، على الرغم من هذه العثرات في كتابه الجديد إلا أنه حقق مبيعات جيدة في طهران ووصل إلى طبعته العاشرة خلال سنة، فالقراء في إيران متشوقين لقراءة الروايات المحلية وينتظرون أن تلامس هواجسهم الأمر الذي قامت به فعلاً قصة مستور الأخيرة بعد انقطاعه سنوات عن الكتابة، لكن نهايتها السيئة ربما تشبه أيضاً حالة الحيرة والضياع الذي يعيشه جزء من شريحة الشباب في إيران.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: