الجادّة: طريقٌ في اتجاهين

ألم النسيان، الألم الخالد؟- أحمد محمود

للمشاركة:

ذهبت إلى القبة البنفسجية، كانت الطقس مشمس، تذكرت أنه أوصى أن يدفن هنا، لم يكن المكان من شأنه لكن الأمر قد تم، دفن في مقبرة عامة وسط الناس العاديين في أرض كئيبة. عبرت القبة نحو اليسار، أبحث عن العلامات نفسها حجرين من المرمر الأسود ذهب لونهما، ثم يأتي حجر آخر، لم أعثر على أي منها، جلت بعيني مرة اخرى، الشمس كانت تغيب بين منارتي المسجد، سمعت صوت امرأة كانت تبكي بعيداً. صوتها كان يأتي مع رياح مغبرة ويرحل من جديد. نظرت حولي لم أرى أي شيء يتحرك، الصوت كان يخادعني، مرة يأتي من هذه الجهة ومرة من جهة أخرى، تردد قليلاً، كنت أظن أنني سأجده بسهولة!، رجعت الطريق التي مضيتها. كان عليّ أن أذهب من يمين قبلة المسجد نحو القبة. لفت رأسي نحو المسجد – كأن أحداً غير مسيري. رأيته يأتي متكئ على عصا أبنوس ولباسه أسود بسيط. مضيت نحوه. ابتسمت وقلت:

  • أين ذهبت؟ كدتُ أضيع
    قال:
  • لو لم اسمع صوتك لما عرفتك!
    لقد بدت عليّ ملامح الكبر، كنت أعلم ذلك، قال:
  • كم من الوقت مضى لم تسأل عنيّ؟
    لم أكن أذكر. أخذني من يدي، كنت أفكر علني أتذكر. ذهبنا بهدوء نحو يمين القبة جهة الشرق، لم أتذكر قلت:
  • لماذا المكان فارغ من الناس؟
    قال:
  • ليلة السبت لا يأتي أحد للقائنا.
    قلت:
  • والأيام الأخرى، ليلة الجمعة مثلاً؟
    قال:
  • نادراً
    لم أقل شيء، سمعت همسه – كانت يتحدث مع نفسه: “منذ عشرين سنة لم يدفن أحد هنا”، فكرت أنه بعد عشر سنوات ربما يستثمرون هذا المكان ويصبح ملعب أو حديقة أو .. قال:
  • هذه هي الحياة!
    هل قرأ أفكاري التي لم أنطق بها؟ هل سمع ما يجول بخاطري؟ نظرت إليه. خدوده كانت بلون التراب – تراب ناعم جاف لم يلامس الماء منذ سنوات. وقفت، وقف. اتكأ على عصاه. بدأ بالكلام، دون أن يحرك شفتيه – كأنه.
  • ما الذي ذكرك بي؟
    لم أقل له أن قلبي قد اشتاق له، وكنت أزيده شوقاً – ذهبت إلى مكتبة المدينة، تخيلته يقف بين رفوف الكتب- كنت أمام طاولة الاستقبال- رأيته يبتسم، يوقع كتابه الجديد. الشباب والفتيات يحملون كتابه الجديد وهم متشوقون في صف التوقيع- كنت قربه. شاب شغوف، رجعت إلى صاحب المكتبة، كان قلبي متشوق لرؤية آخر عمل لأستاذي. نظر إليّ صاحب المكتب وقال لي متردداً: “ما ذكرته – أي العنوان- يعود لأكثر من كتاب من هو الكاتب الذي تريد؟” كان صاحب المكتبة شاب – لم يستطع أن يتذكر – قلت له موضوع الكتاب. قال “في أي سنة طبع هذا الموضوع؟”
    تذكرت – قلت. توقف للحظات فكر، ثم هز رأسه: “منذ اثنين واربعين عاماً؟” ثم مضى وعاد يحمل آخر أثر للأستاذ. أصفرت أوراق الكتاب. نفضت الغبار عنه، الزخارف الذهبية سقطت عن الاسم. رأيت شبابي أمامي- شغوف وعاشق- بين الصفحات وبين السطور وحتى في كل جملة.
    أعدت النظر إلى ممرات المكتبة كانت فارغة!. كأن المدينة خلعت من مكانها المطر يهطل رهاماً وتابوت الاستاذ محمول على أيادي الناس الذين تجمعوا هنا، يموج عليهم يميناً ويساراً. سمعت صوته: “اذاً في نهاية الأمر خطرت ببالكّ” فقدت شجاعتي، كان يقرأ أفكاري. نظر أمامي وقال:
  • مشتاق- من الوحدة !
    عضت على شفتي. هززت رأسي. كان صوته متعباً: “لم يبقى شيء من كل الذكريات وأربعة عقود من الشهرة!” لم أقل شيء ولم أتجرأ على أن أفكر. أكمل حديثه:
  • لا شيء في ألم هذه الجهنم يشفي الوحدة – كل شيء فقد لونه، أصبح قديم دون قيمة و أحياناً..
    لم يكمل، قلت:
  • ماذا أحياناً؟
    نظر حوله: “حتى مخجل” أعاد نظره. نظر إلى شاهدة القبر على يسار عكازه: ” … أخجل من نفسي، من سعي وجهدي ومحاولاتي لـ..” لم يكمل أيضا – شاهدة القبر كانت مغطاةـ ما كتب عليها مقروء وغير مقروء. عدت إليه، نظر في عيني “كنت أظن أن دفني في مقبرة عامة سيعوض عن أحلامي….” صمت مرة ثانية ولم يلحق بها صفة. تنفس الصعداء : “حتى ارتاح!”، قلت له:
  • هل أنت نادم؟
    لم يقل شيء، قلت:
  • كل هذه التكاليف لمقبرة خاصة، ملونة، مزخرفة، مليئة بالنقوش والحجر والرخام..
    قاطعني وقال: “أردت أن ابقى – لافتاً للأنظار” أعادني إلى الوراء: “والآن..” ال
  • نعم والآن أشحد النظرة”
    شعرت بالاضطراب، عاد صوت البكاء، كان يتحايل بنا، تارة يأتي من اليسار وتارة من اليمين، نظرت حولي، قال:
  • ابنها مات!
    نظرت ثانية إلى الاستاذ، قال:
  • صوتها دائما هنا، في كل مكان، تظن أنهم يطاردون ابنها في وحدته، مضينا مرة ثانية يد بيد.
    قلت:
  • هل رأيت المرأة؟
    لقد رآها أحياناً في جولته الليلية: “في الليالي المعتمة أرى صوتها على هيئتها، اصبحت الآن عجوز- منحنية”. اغرورقت عيناه: “صوتها لازال شاباً” خفت من أن تبتل عيناه بالدموع وتتساقط متفسخة كالحجارة القديمة، ابتسم، قال:
  • لن تسقط!
    ارتجف قلبي، شعرت بالخوف، حاولت أن لا أفكر ثانيةً – لكن لم أتمكن!، عبرنا القبة البنفسجية. نظر إلى الأرض وقال:
  • يالا العجب! يعني اذا قرأوا كتبي أحياناً، لمطالعة مسير تطور كتابة القصة- كأنهم نبشوا قبري باحترام!
    لم أقل شيئاً، قال:
  • متى؟
    قلت:
  • ماذا؟
    قال:
  • ذلك الذي مرّ في خيالك! نفسه من قال أنّ ما كتبته كان عبثي!
    تصبب العرق من جبيني، قال:
  • من يفكر هكذا؟
    قلت:
  • ناقد شاب
    قال:
  • شاب يعاني هذه الأمراض!
    ترك يدي: “هنا”، نظرت إلى الحجر الأسود- كان الاستاذ
    كتب شيء شبه مقروء: ” .. من أشهر .. العالمي.. جائزة..) جلست قرأت الفاتحة لروحه، ذهب لون الحجر، قلت:
  • اجلس أقرأ الفاتحة أنت أيضا!
    قال:
  • على روحي؟
    قلت:
  • يائس أم ممنوع؟
    قرأت الفاتحة وأمسكت بحصى صغيرة عبث فيها على القبر، فتحت عيناي مرة ثانية، لم أرى الاستاذ، نهضت بحث حولي لم أراه، كان الليل قد هبط وعاد صوت المرأة المخادع، أنير مصباح من بعيد، مضيت نحوه، قال لي أحدهم: “أنا أموت أريد ماء”، شعرت بسهم عبر خلفي، غرقت يدي بالعرق، استعجلت في المشي ثم خرجت من المقبرة.
جاده ايران تلغرام
للمشاركة: